البحوث

مشكلة القات من وجهة نظر شرعية

2010-07-26



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الصادق الأمين، محمدٍِ وعلى آله وصحبه وسلم: تظهر المشكلة وحجمها إذا ألقينا نظرة على الأضرار المترتبة على تناوله، وهي أضرار مختلفة، تشمل جوانب متعددة في حياة المسلم هي:

أضرار دينية.

أضرار اجتماعية.

أضرار صحية.

أضرار اقتصادية

والإخوة المشاركون في الندوة سوف يتحدثون عن هذه الأضرار، كلٌّ في مجال اختصاصه، غير أني أورد موجزًا لكل واحد من الجوانب، مع التركيز على الجانب الديني:

أولاً: الأضرار الاجتماعية

1- الإلجاء إلى مجالسة مَنْ قد لا تُحمد مجالسته؛ لأن المقياس هو توفير جوٍّ ملائم للتخزين، تحلو فيه المجالسة والمفاكهة، وتتوفر فيه مستلزمات كالدخان والمداعة، أو بتعبيرنا الحضرمي (الرشبة)، ومثل هذا الجو في الغالب - وعندنا في حضرموت - يبتعد عنه عقلاء الرجال وأهل الصلاح والوقار منهم.

2- أن الحرص على مجالس التخزين يكون على حساب واجبات أخرى؛ مثل زيارة الأرحام، والقيام بواجبات بعض الأصدقاء، وأكبر من ذلك: الإهمال في رعاية الأسرة والجلوس مع أفرادها، مما يسبب فراغًا كبيرًا، قد يؤدي إلى تفكك الأسرة وتصدُّع بنيانها، وسيزداد الأمر سؤًا إذا انتقلت عادة التخزين والاجتماع عليه إلى قطاع النساء؛ كما هو حاصلٌ في بعض المحافظات.

3- إنه قد يتسبب في دخول بعض الأمراض الاجتماعية إلى بيوت المخزِّنين، وبالذات أصحاب الدخل المحدود؛ فالحرمان الكبير الذي يُمنى به بعض تلك الأسر؛ يولِّد في نفوس أبنائها حسدًا على جيرانهم الذين يوفِّرون لأبنائهم كافه متطلباتهم من المآكل والملابس والكماليات، بينما أبوهم لا يتمكن من توفير ذلك؛ لعدم وفاء دخله بمتطلِّبات القات ومتطلباتهم، وهو يقدم متطلبات القات على حاجاتهم، ربما الأساسية! وقد يقع بعضهم في مرض التسوُّل، والنظر إلى ما في أيدي الناس، أو إلى أنواع من التصرفات السيئة؛ تحت وطأة الحرمان.

4- انتشار الرشوة وبعض أنواع الفساد المالي لدى بعض الموظفين - هو في الدرجة الأساسية بسبب القات، حتى إن ما يأخذه أولئك بغير حقٍّ يُسمَّى في العُرْف (حقُّ القات).
5- وقوع بعض الشباب والمراهقين - محدودي الدخل أو العاطلين عن العمل - في أنواعٍ من السرقة؛ حيث ظهرت حالات من ذلك، بعد انتشار عادة التخزين في المحافظة.
هذه بعض الأضرار الاجتماعية، وليست على سبيل الحصر، وإنما للذِّكْر.

 

 


ثانيًا: الأضرار الصحية
قد تحدث عنها المختصُّون، ومنها: فقدان الشهية، زيادة نبض القلب، الإمساك الذي يؤدِّي إلى حدوث البواسير وغيرها من الأمراض، الأرق، انحباس البول، إضعاف الدافع الجنسي. ويضاف أخيرًا: المشاكل الصحية المترتِّبة على المساحيق التي يُرَش بها القات؛ لأجل حفظه من الأمراض، والزيادة في إنتاجه، الذي عرف في اليمن بـ (بودرة القات، أو القات المُبَوْدَر)، والذي يتسبَّب في تسمُّم بعض المخزِّنين.

ثالثًا: الأضرار الاقتصادية
يجب أن ننظر إليها من زاويتين: زاوية الضرر المترتِّب على الفرد، و زاوية الضرر المترتِّب على المجموع؛ ومن كلا الزاويتين سنلحظ أضرارًا بالغةً، سواء من جهة تأثيره على الإنتاج، أو تأثيره على الإنفاق، ولا شكَّ أن الزملاء المتحدِّثين في الندوة سوف يتحدَّثون عن هذه الناحية بما يكفي.


رابعًا: الأضرار الدينية
ولا أعني هنا أن هناك انفصامًا بين الأضرار الدينية وما سبق عنه الحديث؛ إذ أن الدين يحرِّم كلَّ ما كان ضرره أكثر من نفعه، ويقرِّر أن دفع المفاسد مقدَّم على جَلْب المصالح، وبالتالي فكلُّ الأضرار التي سبق الحديث عنها هي أضرار دينية، ولكن أعني الأضرار الخاصة التي تُضِرُّ بالجانب التعبُّدي، الذي هو مقصودٌ لذاته؛ أي إنه غايةٌ في نفسه، والتي منها:
1- أهم ذلك: إضاعة بعض الصلوات، وهو أمرٌ مُشاهَد معلومٌ، لا يماري فيه أحدٌ.
إن كثيرًا من المخزِّنين - هداهم الله - تضيع عليهم كثيرٌ من الصلوات، ومن أهمها صلاه العصر وصلاه المغرب، هذا إذا اعتبرنا أنَّ المخزِّن لا يبدأ تخزينه إلا بعد صلاه الظهر، وأنه يخرج منه قبل صلاة العشاء، وإلا فإن بعضهم تضيع عليه صلاه الظهر وهو يبحث عن القات، وتضيع عليه صلاة العشاء وهو في آثار التخزين؛ وتضيع عليه صلاة الفجر وهو في النوم الذي فرضه عليه الأرق والسَّهر الذي جلبه القات أوَّل الليل.
وفي بعض المحافظات؛ لجأ بعضهم إلى الجمع المستمر بين الصلوات؛ حيث يقدِّم العصر مع الظهر، والعشاء مع المغرب؛ ليتسع وقت التخزين، وهو أمرٌ مُبْتَدَعٌ في الدِّين، يتَّفق العلماء المعتبَرون على بُطلانه.
2- الانشغال عن ذكر الله؛ فمن المعلوم ما يحصل أثنا التخزين من لَغْوٍ وحديثٍ متشعِّبٍ، يشغل المخزِّنين عن ذكر الله لساعاتٍ طويلة، وحتى لو أراد المخزِّن أن يذكر الله، فجَوُّ المجلس غير لائق بذلك، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما اجتمع قومٌ فتفرقوا عن غير ذكر الله؛ إلا كأنما تفرقوا عن جفية حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة))؛ رواة أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وصحَّحه شيخُنا الألبانيُّ - رحمه الله.

موقف العلماء منه:
منذ القرن العاشر الهجري - فيما أعلم - بدأ العلماء يبحثون أمر القات، ويُصدرون الفتاوى في حكمه بين محلِّل ومحرِّم، كلٌّ بما أدَّاه إليه اجتهاده، سواء من جهة توصيف القات نفسه، أو من جهة تنزيل النصوص الشرعية عليه، أو قياسه على ما ورد فيه من النصِّ مما يظن أنه يشابهه ويجتمع معه في العلَّة التي أُنيط بها حكمه.وكان دخول القات إلى اليمن - على الأرجح - آخر القرن السابع، أو أول الثامن، في أيام الملك المؤيَّد الرسولي، غير أنه فيما يظهر لم يُشكِّل ظاهرةً إلا بعد زمنٍ طويل، فمنهم مَنْ حرَّمه ومنعه وألَّف في ذلك الرسائل أو نظم القصائد، ومن هؤلاء القائلين بتحريمه من المتقدِّمين:

1- الفقيه أبو بكر بن إبراهيم المقري الحرازي الشافعي، المتوفى سنه (96هـ)- له رسالة في تحريم القات، ذكرها ابن حجر - رحمه الله - في رسالته "تحذير الثِّقات".

 

2- القفيه العلامة حمزة الناشري، المتوفَّى سنه (92 هـ) - له منظومة في تحريمه، جاء منها قوله:

ولاتأكلن القات رطبًا ويابسًا        فذاك مضرٌّ داؤه فيه  أعضلا
فقد قال أعلام من العلماء أن        هذا  حرامٌ  للتضرر   مأكلا

 

3- العلامة ابن حجر الهيتمي، صاحب "تحفة المحتاج"، له رسالة بعنوان "تحذير الثقات عن استعماله الكفتة والقات"، قاسه فيها على الحشيش وجوزة الطيب، وهي موجودة في كتابه "الفتاوى الكبرى الفقهية".


4- الإمام شرف الدين، أحد أئمة الزبيدية، له رسالة أسمها: "الرسالة المانعة، من استعمال المحرمات الجامعة، في علَّة التحريم بين الحشيشة والقات، وغيرها من سائر المحرمات"، قال القاضي إسماعيل الأكوع في كتابه "هجر العلم": "وقد أفتى بتحريمه، بعد أن شاع استعماله في اليمن، وأمر بقلع أشجارها"، وهذا الإمام من أعيان القرنين التاسع والعاشر، توفي سنة (965هـ)، رحمه الله.


5- ومنهم حافظ بن أحمد الحكمي - رحمه الله - المتوفى سنه (1377هـ)، له قصيدة بعنوان "نصيحة الإخوان، عن تعاطي القات والتبغ والدخان"، مطلعها:

يا باحثًا عن عفون القات ملتمسًا        تبيانه    مع    إيجاز    العبارات
ليس السماع كرأي العين متضحًا        فاسأل خبيرًا ودع عنك الممارات

 

6- مفتي المملكة العربية السعودية السابق؛ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - الذي توفي سنه (1389هـ)، له فتوى مطوَّله، عبارة عن رسالة صغيرة في حكم القات، أفتى بتحريمه.

7- كما قرر تحريمه الشيخ العلامة محمد بن سالم البيحاني، في كتابة "إصلاح المجتمع"، وله في ذلك قصيدة بليغة، منها قوله:

إن  رمت  تعرف   آفة   الآفات        فانظر  إلى  إدمان  مضغ   القات
القات  قتل   للمواهب   والنهى        ومولد      للهمِّ      والحسرات
ما  القات  إل   فكرةً   مسمومةً        ترمي  النفوس   بأبشع   النكبات
ينساب  في  الأحشاء  داءً  فاتكًا        ويعرض   الأعصاب   للصدمات
يذر  العقول  تتيه   في   أوهامها        ويذيقها   كأس   الشقاء   العاتي
ويميت في روح الشباب طموحهلا        ويذيب   كل    عزيمة    وثبات
يغتال   عمر   المرء   مع   أمواله        ويريه    ألوانًا    من    النقمات
هو    للإرادة    والفتوة    قاتلٌ        هو   ماحقٌ   للأوجه   النضرات
فإذا  نظرت  إلى   وجوه   هواته        أبصرت  فيها   صفرة   الأموات

 


8- كما اعتبره العلماء المجتمعون في (المؤتمر الإسلامي العالي لمكافحة المسكرات والمخدرات)، المنعقِد في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، في الفترة من ( 27 - 30/5/1402هـ) من المخدرات المحرمة، وجاء في التوصية التاسعة عشر: "يقرر المؤتمر بعد استعراض ما قُدِّم إليه من بحوث حول أضرار القات الصحية والنفسية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية - أنه من المخدرات المحرَّمة شرعًا، ولذلك فإنه يوصي الدول الإسلامية بتطبيق العقوبة الشرعية الرادعة على مَنْ يزرع أو يروِّج أو يتناول هذا النبات الخبيث.

 


9- وكذلك اعتبره (المؤتمر الدولي التخصصي الأول للقات في تنانا ريف بمدغشقر، في الفترة من  17 – 21 يناير 1983م)، اعتبره محرَّمًا شرعًا؛ حيث جاء في المقترح الرابع: "أنه يجب على الدول المعيَّنة اتخاذ اللازم نحو توعية وتثقيف الجماهير بالمخاطر الصحية والعواقب الاقتصادية السيئة؛ لتعاطي القات بدرجه مفرِطة، وحيث كان ذلك مناسبًا؛ يجب الاستفادة القصوى من المعاهد التعليمية والاجتماعية والدينية الموجودة"؛ وقد أحيط المجلس علمًا بنتائج البحوث المقدمة إليه عن الآثار الضارة لتعاطي القات على المستويات الصحية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، وأشار المؤتمر إلى أن القات محرَّم بحكم الشريعة الإسلامية؛ نظرًا لأن آثاره الضارة تفوق مزاياه. علمًا بأنه يمكن الإفادة من نباتات أخرى بديله، ليس لها خصائص ضاره، (وننبه أن هذا المؤتمر ضم وفدًا من اليمن).
القائلون بحِلِّ القات:

وإذا كان مَنْ ذكرنا من العلماء قد قال بتحريمه، سواء في تأليفٍ مستقلٍّ أو قصائد شعرية، وكذلك ما قرَّرَتْه المجامع والمؤتمرات من تحريم القات؛ فإن الإنصاف يقضي أن نشير إلى أن هناك من العلماء مَنْ دافع عن القات، وصرَّح بأنه حلالٌ، حيث لا يَثْبُتْ التحريم إلا بدليل، ولا دليل صحيح صريح في تحريم القات، وكذلك لا يصح قياسه على الخمر والمخدِّرات؛ لعدم وجود العلَّة التي من أجلها حُرِّمَتِ الخمرُ في القات - حسب تعبيرهم.

وممَّن قال بحِلِّهِ منهم:
1- رسالة ذكرها ابن حجر في مقدمة "تحذير الثقات"؛ فذكر أنه وصلته ثلاث رسائل من صنعاء وزبيد، رسالتان في تحريمه، وواحدةٌ في تحليله.


11- يحيى بن محمد المهدي، له قصيدةٌ ردَّ فيها على الشيخ حافظ الحكمي في منظومة "نصيحة الإخوان"، قال فيها:

أنى لك اليوم ذا التحريم جئت  به        لقد  أسأت   بقبح   الاعتراضات
إن المعدات في المحظور قد حصرت        في الذكر والنهى عن خير  البريات

 

وجاء فيها هذا البيت:

يا حبذا القات ما أحلى  مجالسه        بالذكر شيدت وحفت بالعبادات

 

 

وكان الشيخ حافظ قد قال في قصيدته:

على العبادة  قالوا  نستعين  به        فقلت لا بل على ترك العبادات

 

 

* كتاب "القات"، للدكتور حمد المرزوقي والدكتور أحمد أبو خطوة، صفحة 319.

2- وغير أولئك ممَّن لا تحضرني الآن أسماؤهم وأسماء مؤلفاتهم؛ بل إن بعضهم ليمدحه ويتغزَّل به - كما قال الشيخ البيحاني رحمه الله -: "ويزعم بعضهم أنه يستعين به على قيام الليل، وأنه قٌوتُ الصالحين، ويقولون: جاء به الخَضِر من جبل قاف للملك ذي القرنين، ويروون فيه من الحكايات والأقاصيص شيئًا كثيرًا، وربما رفع عقيرته بقوله:

صَفَتْ وطَابَتْ بِأَكْلِ القاتِ أَوْقاتِي

وقوله:

كُلْهُ لما شِئْتَ من دنيا وآخِرَةٍ        ودَفْعِ ضُرٍّ وجَلَبٍ  لِلْمَسَرَّاتِ

 

كلام الإمام لشوكاني - رحمه الله:

لقد تكلم الإمام الشوكاني - رحمه الله - كلمةً عن القات في كتابه "البحث المُفسِّر، عن حكم ((كُلِّ مُسْكِرٍ ومُفَتِّر))"، كلامًا قد يبدو - ومن أول وهلة - أنه يرى إباحته بإطلاق، غير إن الباحث المتأني إذا ردَّد النظر في كلامه؛ قد يخرج بنظرة أخرى، والشيخ - رحمه الله - قد سئل عن "الزعفران، والجوز الهندي، ونوعٌ من القات، هل يحرم قياسًا على الحشيشة بجامع التَّفْتير... "الخ. فكان جوابه فيما يخص القات، أن قال: "وأما القات؛ فقد أكلتُ منه أنواعًا مختلفة، فلم أجد لذلك أثرًا في تفتيرٍ ولا تخديرٍ ولا تغيير. وقد وقعت فيه أبحاثٌ طويلة بين جماعة من علماء اليمن عند أول ظهوره، وبلغت تلك المذاكرة إلى علماء مكة، وكتب ابن حجر الهيتمي في ذلك رسالةً طويلةً، سماها (تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات)، ووقفتُ عليها في أيامٍ سابقةٍ، فوجدته تكلَّم فيها كلامَ مَنْ لا يعرف ماهيَّة القات، وبالجملة: إنه إذا كان بعض أنواعه يبلغ حدَّ السُّكْر أو التفتير من الأنواع التي لا نعرفها؛ فتوجُّه الحكم بتحريم ذلك النوع بخصوصه. وهكذا إذا كان يضر بعض الطباع من دون إسكار وتفتير؛ حَرُمَ لإضراره، وإلا فالأصل الحِلُّ، كما يدلُّ على ذلك عمومات القرآن والسنَّه".


فهذا كلام الإمام شيخ الإسلام الشوكاني - رحمه الله - تضمَّن ثلاثة أمور:

الأمر الأول: انه أكل أنواعًا مختلفة منه؛ فلم يجد لذلك أثرًا في تفتير ولا تخدير ولا تغيير, ومن أجل ذلك حكم أنه على الأصل، وهو الحِلُّ.

الأمر الثاني: أنه إذا كان بعض أنواعه يبلغ حدَّ السُّكْر أو التفتير؛ توجَّه الحكم بتحريم ذلك النوع بخصوصه.

الأمر الثالث: أنه إذا كان يضرٌّ بعض الطِّباع من دون إسكار وتفتير؛ حَرُمَ لإضراره. فهو كما ترون بنى حِلَّهُ على الأصل، غير أنه احتاط لنفسه؛ فذكر أنه إذا وُجِدَ منه أنواعٌ مُسْكِرَة أو مفتِّرة أو مغيِّرة؛ حرم ذلك النوع, وكذلك إن وُجِدَ منه إضرارٌ؛ حَرُمَ لإضراره.


فهل يسلِّم الجميع أن جميع أنواع القات لا إسكار فيها؟ أقولُ: أما القات المعهود الذي (يخزِّنه الناس) - فما علمنا أنه مسكرٌ، ولكن هناك مَنْ يقول أن منه أنواع تُسْكِر، فإذا ثبت هذا؛ فتلك الأنواع محرَّمة لا شك. وأما مسالة التخدير أو التَّفْتير؛ فقد صنَّفَت (منظمة الصحة العالمية) القات مع المخدِّرات، وقالت إنه يُحدِث إدمانًا نفسيًّا متوسطًا أو خفيف الشدة، وربما يُحدِث شيئًا بسيطًا من الإدمان الجسدي، وأضيف إلى جدول المخدرات رسميًّا عام 1973م.

ويقول الدكتور محمد عوض باجبير في كتابه "القات والطب": "إن قولنا إن القات مخدِّر، أو دواء له خاصية الإدمان من الناحية العلمية - شيءٌ لا جدال فيه، إذا فهمنا المعنى العلمي للمخدِّر أو الإدمان". أ هـ. فإذا ثبت ما ذُكِرَ من أن القات مُلْحَقٌ قطعًا بالمخدِّرات، وثبت تأثيره على متعاطيه كذلك، وعلمنا أن المخدرات محرَّمه بالإجماع، لا إجماع المسلمين فقط، ولكن إجماع المسلمين والكافرين كذلك - نتج من ذلك أنَّ القات محرَّمٌ، حتى على قول الشوكاني - رحمه الله.


وهكذا إذا ثبت ضرره، وقد ثبت فعلاً في جوانب مختلفة دينيه وصحية واجتماعية واقتصاديه، إذا ثبت ذلك؛ فإن الشوكاني - رحمه الله - يحرِّمه بذلك، ومن هنا يقول العلامة الشيخ محمد بن سالم البيحاني - رحمه الله - بعد أن أورد شيئأً مما يمكن أن يستدلَّ به المُبيحون للقات قال: "وصواب ما يقول هذا المُدافِع عن القات والتُّنباك، ولكنه مغالطٌ في الأدلة، ومتغافلٌ عن العمومات الدالة على وجوب الاحتفاظ بالمصالح وحرمة الخبائث، والوقوع في شيءٍ من المفاسد، ومعلومٌ من أمر القات أنه يؤثِّر على الصحة البدنية؛ فيحطم الأضراس، ويهيِّج الباسور، ويفسد المعِدَة، ويُضعِف شهيَّة الآكل، ويُدِرُّ السلاس - وهو الوَدِيُّ - وربما أهلك الصُّلْبَ، وأضعف المَنِيَّ، وأظهر الهُزال، وسبَّب القَبْض المزمِن ومرض الكُلَى.

وأولاد صاحب القات - غالبًا - يخرجون ضعاف البَدَنِيَّة، صغار القامة، قليلٌ دَمُهُم، مصابين بعدَّة إمراض خبيثة". انتهى كلام العلامة البيحاني - رحمه الله، وقد يكون فيه شيءٌ من المبالَغة، غير إننا نفهم منه كيف يوجَّه كلام شيخ الإسلام الشوكاني - رحمه الله.

وبعد كلِّ ما تقدَّم؛ فإن الذي يظهر لي - والله أعلم -: إن الاحتياط هو تجنُّب القات، والعمل على ما أفتى به المحرِّمون؛ لما ذكرنا فيه من الأضرار المتعدِّدة، وأن الذين لا يظهر لهم التحريم؛ فإن أقلَّ ما يحب عليهم اعتباره من المشتبِهات، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا عن الوقوع في المشتبِهات؛ حين قال فيما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: ((إن الحلال بيِّنٌ، وإن الحرام بيِّنٌ، وبينهما أمور مُشتبِهاتٌ، لا يعلمُهُنَّ كثيرٌ من الناس؛ فمن اتقَّى الشُّبُهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضه، ومَنْ وقع في الشُّبُهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحِمى، يوشِك إن يرتع فيه. إلا وإن لكل مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ إلا وهي القلب)).

واجب مؤسسات التوجيه والإرشاد:
إذا علمنا ما يترتب على تعاطي القات من مفاسد وأضرار، وما يترتَّب عليه من مآثم وأوزار، على قول المحرمِّين - فإنه بذلك يعتبر منكرًا، يحب النهي عنه، وإزالته بالطرق الحكيمة والأساليب النافعة المؤثِّرة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))؛ رواه مسلمٌ من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه. ومَنْ لم يترجَّح له تحريمه؛ فإنه مُطالَبٌ بالتنبيه على ما فيه من إضرار مطلقًا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)). قالوا: لمَنْ يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمه المسلمين وعامَّتهم)). ومن النصيحة للمسلمين - عامَّتهم وخاصَّتهم - تحذيرهم مما يضرُّهم في دينهم ودنياهم، ومن أشدِّ ما يضرّهم في ذلك: تعاطي هذه الشجرة الممقوتة. فعلى مَنْ كان من أهل الكلمة المسموعة والتوجيه المؤثِّر أن يستعمل ذلك في توعيه الأمَّة بأضرار هذه العادة السيئة؛ حتى يُقلعوا عنها، وتسلم الأمة من أشرارها. هذا هو واجب رجال الإعلام في أجهزتهم المختلفة؛ من إذاعة وتلفاز وصحف، وهو واجب مسؤولي الإرشاد والتثقيف الصحي، وواجب أصحاب الإرشاد الزراعي، وقبل ذلك وبعده: مسؤولية الخطباء والمرشدين وأئمه المساجد وأهل العلم، الذين يُقتدَى بهم، ويُسمَع قولهم - واجبهم جميعًا أن يوجِّهوا الناس إلى ما ينفعهم، ويحذرونهم مما يضرّهم؛ حتى يؤدوا ما أوجبه الله عليهم من ذلك. وأنا اقترح على مَنْ يهمه الأمر، إما في جمعيه علماء اليمن أو في وزارة الأوقاف والإرشاد، أو على الأقل إحدى جمعيات محاربه القات والمؤسسات العاملة في ذلك المجال - أقترحُ أن تتبنى عقد مؤتمر رفيع المستوى، يُدعى إليه علماء الدين، وخبراء المخدِّرات، والأطباء المتخصصون، ويحضَّر لذلك تحضيرًا جيدًا من كل المشاركين، ثم يدخل المشاركون فيه بشكل حيادي؛ باحثين عن الحقيقة، واضعين نصب أعينهم المسؤولية العظيمة الملقاة على عواتقهم، متجردين عن العواطف وضغط الواقع، وكذلك الحماس والغيرة الشرعية التي تجب تجاه المحرمات القطيعه؛ إذ المفترض أننا لا زلنا نبحث عن الحكم الشرعي الصحيح، الذي لا يمكن الجزم به إلا بعد المداولات والنقاشات والاطلاع على ما يطرحه المشاركون كلٌّ في مجاله؛ حيث لا يوجد نصٌّ قاطعٌ يخصُّ هذه الشجرة بعينها، وإنما هو تحقيقٌ لمناط الحكم فيها. فإذا توصَّل المشاركون إلى حكمٍ معيَّنٍ؛ وجب التسليم به، ووجب على الجهات الحكومية المسؤولة عنه اعتماده، والإعداد لتنفيذه دون تعسف أو استعجال، باعتبار هذه عادة مستحكِمة، وقد ارتبط بها كثيرٌ من المصالح والملابسات الأخرى؛ فيجب مراعاة ذلك في التنفيذ، لا في إصدار الحكم ذاته،، والله أعلم

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم