البحوث

الربانيون والتجديد الديني

2010-10-01



الربانيون والتجديد الديني

‏ المقدمة :‏

الحمد لله الذي تكفل بحفظ هذا الدين وقيامه إلى يوم الدين , وبلوغه إلى ‏العالمين , واتخذ لذلك وسائل منها : حفظ القرآن الكريم وسنة الرؤوف ‏بأمته الرحيم , ووجود علماء ربانيين ينفون عنه تحريف الغالين , وانتحال ‏المبطلين , وتأويل الجاهلين , وبعث المجددين الذين يحيون مااندرس من ‏معالمه ويعيدون الناس إلى جادته ويقمعون ما أحدث فيه ونسب إليه ما ‏ليس منه إلى غير ذلك من وسائل حفظ الدين .‏

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين , وقدوة للعاملين وحجة ‏على الناس أجمعين نبينا محمد وعلى آل بيته الطاهرين وصحابته الأكرمين ‏والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت السنين .‏

أما بعد .. فهذا بحث مختصر يتناول جوانب يسيرة من جوانب التجديد في ‏الإسلام , كتبته تلبية لدعوة " رابطة العالم الإسلامي " لما تعتزمه من عقد ‏ندوة علمية بالتعاون مع " وزارة الأوقاف والإرشاد " اليمنية , وملتقى ‏تريم الثقافي , بمناسبة اختيار تريم عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2010 م , ‏وذلك في الفترة من : 10 - 12 ذوالقعدة 1431 هـ .‏

 

وتكمن أهمية ما تناوله البحث في الحاجة الماسة لتحقيق المراد بالتجديد في ‏الإسلام حيث كثر القول في ذلك , وأضيف إلى التجديد ما هو من قبيل ‏الابتداع أو الانحراف الكبير عن الدين .‏

وكذلك الحال بالنسبة للمجدد وصفاته وشروطه وهل هو واحد أم أكثر في ‏كل قرن , ومعرفة الحق من بين الدعاوى الكثيرة بالتجديد للنفس أو للغير , ‏وما بين الفرق والمذاهب والجماعات .‏

وأخيرا من الأهمية بمكان إلقاء الضوء على دعوة علماء اليمن المجددين ‏المجتهدين وأثرهم على الصحوة المعاصرة .‏

وقد تضمنت خطة البحث ما يلي :‏

1-الفصل الأول :‏

التجديد وحاجة البشرية له .‏

وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول : معنى التجديد وحقيقته.‏

المبحث الثاني : حاجة البشرية إلى التجديد .‏

المبحث الثالث : الفرق بين التجديد والحداثة .‏

المبحث الرابع : تجديد الخطاب الديني بين التجديد والحداثة .‏

2-‏الفصل الثاني :‏

تخريج حديث التجديد وشرحه .‏

وفيه خمسة مباحث‏

المبحث الأول : تخريج الحديث .‏

المبحث الثاني : شرح الحديث إجمالا .‏

المبحث الثالث : مجالات التجديد .‏

المبحث الرابع : صفات المجددين .‏

المبحث الخامس : حقيقة التجديد الذي دل عليه الحديث .‏

3-‏الفصل الثالث .‏

دعاوى التجديد .‏

وفيه ثلاثة مباحث‏

المبحث الأول : من ادعى التجديد لنفسه .‏

المبحث الثاني : تنازع الطوائف في تعيين المجددين .‏

المبحث الثالث : الجمع بين تلك الأقوال وتحقيق الصواب فيها .‏

4-‏الفصل الرابع .‏

المجددون من علماء اليمن وأثرهم على الصحوة المباركة .‏

وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول : شهادة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء لأهل اليمن ‏وفقههم وحكمتهم .‏

المبحث الثاني : من هم مجددو اليمن .‏

المبحث الثالث : مجالات التجديد عند علماء اليمن .‏

المبحث الرابع : أثر مجددي اليمن على الصحوة المعاصرة .‏

5-‏الخاتمة .‏

1-‏الفصل الأول :‏

التجديد وحاجة البشرية له .‏

وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول : معنى التجديد وحقيقته .‏

ـ التجديد في اللغة :‏

‏** التجديد : مأخوذ من ( جدد ) الشيء أي : صيره جديدا ,و( تجدد ) : صار ‏جديدا , و( استجد ) الشيءُ : صار جديدا , و( استجد ) الرجلُ الشيءَ : استحدثه ‏وصيره جديدا ‏ .‏

وكلمة جديد وردت في القرآن ست مرات كلها مرتبطة بالخلق مثل قوله تعالى : " ‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ‏وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "‏

يقول الحافظ ابن كثير :‏

يقول تعالى لرسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه:{ وَإِنْ تَعْجَبْ } من تكذيب ‏هؤلاء المشركين بأمر المعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلالاته في خلقه ‏على أنه القادر على ما يشاء، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها ‏بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالمين خلقا ‏جديدا ...اهـ

ولأحد الشعراء ‏ يَتَشَوَّقُ إلى بَلَدِهِ صَقَلِّيَةَ :‏

‏( ذَكَرْتُ صَقَلِّيَة والأسى ** يُجَدِّدُ لِلنَّفْسِ تَذْكَارَها )‏

وواضح من هذا أن التجديد في اللغة يعني إعادة شيء كان موجودا وأصابه البلى ‏إلى حالته الأولى , وهذا التفسير اللغوي متطابق مع تفسير العلماء المعتبرين للتجديد ‏كما سيأتي بيانه من كلامهم .‏

‏- التجديد في الشرع .‏

بالنظر للأدلة يتبين أن مادة التجديد قد وردت في أحاديث منها :‏

‏1-‏حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن ‏الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها "‏ ‏ .‏

‏2-‏حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ‏قال : " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى : ‏أن يجدد الإيمان في قلوبكم "‏ ‏ .‏

ومن حديث ابن عمرو هذا يتبين لنا أن المقصود بالتجديد هو : إحياء ما قد ضعف ـ ‏أو اندثر ـ من الإيمان .‏

وعليه فيكون المقصود بالتجديد في الدين هو : إحياء ما قد ضعف ـ أو اندثر ـ من ‏معالم الدين علما وعملا وحالا .‏

وفيما يلي نذكر بعض ما ذكر العلماء والشراح في معنى التجديد في حديث أبي ‏هريرة :‏

‏1-‏قال العلقمي : معنى التجديد : إحياء ما اندرس من العمل من الكتاب والسنة ‏والأمر بمقتضاهما .اهـ

‏2-‏قال المناوي : يجدد لها دينها : أي يبين السنة من البدعة , ويكثر العلم , ‏وينصر أهله , ويكسر أهل البدعة ويذلهم .اهـ

‏3-‏قال العظيم آبادي :‏

‏ التجديد : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة , والأمر بمقتضاهما , ‏وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات .اهـ

‏4-‏قال ملا علي القاري في المرقاة ‏:‏

أي يبين السنة من البدعة , ويكثر العلم ويعز أهله , ويقمع البدعة ويكسر ‏أهلها .اهـ

‏5-‏قال د. عدنان محمد أمامة بعد أن ساق عددا من التعريفات :‏

ومن مجموع هذه التعريفات للتجديد يمكننا صياغة تعريف جامع له على الشكل ‏التالي : تجديد الدين يعني إحياء وبعث ما اندرس منه , وتخليصه من البدع ‏والمحدثات , وتنزيله على واقع الحياة ومستجداتها .اهـ

وهكذا يتبين أن كلام العلماء كافة يخرج من مشكاة واحدة , ويؤكد على حقيقة ‏التجديد التي لا يصح غيرها : بيان ما قد يخفى من معالم الشريعة وإعادة الناس ‏للتمسك به على منهج النبوة .‏

المبحث الثاني : حاجة البشرية إلى التجديد .‏

خلق الله عز وجل آدم عليه السلام على طبع النسيان , وكانت ذريته على نفس ‏طبعه , كما تبارك وتعالى :"وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏‏"‏ ‏.

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى :‏

أي : ولقد وصينا آدم وأمرناه ، وعهدنا إليه عهدا ليقوم به ، فالتزمه ، وأذعن له ‏وانقاد ، وعزم على القيام به ، ومع ذلك نسي ما أمر به ، وانتقضت عزيمته ‏المحكمة، فجرى عليه ما جرى ، فصار عبرة لذريته ، وصارت طبائعهم مثل طبيعته ‏، نسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ فخطئوا ، ولم يثبت على العزم المؤكد ، وهم ‏كذلك .. اهـ

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إثبات النسيان لآدم عليه السلام ولذريته من ‏بعده : " ... ونسي آدم فنسيت ذريته ... "‏ ‏ .‏

فلما كان هذا طبع بني آدم احتاجوا إلى التذكير بين حين وآخر , ولذلك امتن عليهم ‏ببعث الأنبياء والرسل , كلما مات نبي تبعه آخر , ولما كان محمد صلى الله عليه ‏وسلم آخر الأنبياء والرسل , امتن على هذه الأمة خاصة ببعث المجددين يذكرون ‏الناس ما غفلوا عنه من شريعة ربهم تبارك وتعالى .‏

ولا يقف الأمر عند النسيان المجرد غير المتعمد , بل يتعدى إلى النسيان القسري , ‏فإنه لا يخفى على الناظر في تاريخ البشرية صعود أقوام ودول تارة ونزولها أخرى : ‏‏" وتلك الأيام نداولها بين الناس .. "‏ ‏ , قال البغوي في تفسيره : { وَتِلْكَ الأيَّام ‏نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } فيومٌ لهم ويومٌ عليهم .اهـ ‏ , فإذا كان العلو في زمن من ‏الأزمان لأهل الفسق والفجور ـ على دركات ذلك ـ فإن شيوع الفسق ينسي معالم ‏الشريعة , وينشأ في الإسلام من لا يعلم بعض ما أنزله الله عز وجل من الشرائع , ‏فكان بعث المجددين رحمة من الله بهذه الأمة .‏

وكذا من عوامل نسيان الشرائع حركة الشياطين التي لا تهدأ لإضلال البشرية ؛ فإن ‏الله عز وجل خلق البشر لعبادته وحده لا شريك له ـ وكانوا كذلك في مبدأ الأمر ـ ‏وكان الصراع بين الشياطين وبني آدم أمرا مقدورا محتوما , كما أخبرنا تبارك ‏وتعالى : " قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ ‏أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ ‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ "‏ ‏ .‏

وفي الحديث : " ... و إني خلقت عبادي حنفاء كلهم و إنهم أتتهم الشياطين ‏فاجتالتهم عن دينهم و حرمت عليهم ما أحللت لهم و أمرتهم أن يشركوا بي ما لم ‏أنزل به سلطانا ; وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا ‏من أهل الكتاب و قال : إنما بعثتك لأبتليك و أبتلي بك و أنزلت عليك كتابا لا يغسله ‏الماء تقرؤه نائما و يقظانا "‏ ‏ .‏

وأيضا من أسباب بعث المجددين رد الناس إلى الوسطية التي شرعها الله عز وجل ‏لعباده ؛ فإنه لا يخفى أن الناس أنواع شتى , وكل له ميوله وأهواؤه , فمن فاسق ‏يسعى وراء شهواته بأي طريق , إلى غال يسعى للتشديد على النفس والغير , وكل له ‏أتباعه ودولته وسلطانه , فيسبب ذلك خفاء بعض معالم الشريعة إلى حين .. ‏

فكان الناس في أمس الحاجة لإظهار هذه المعالم التي تخفى بين حين وآخر , فتكفل ‏الله عز وجل ـ رحمة بعباده ـ أن يبعث بعض أهل الحق فيعيدونها غضة طرية , ‏ولعل هذا هو المعنى الدقيق للتجديد كما سنرى فيما يأتي بعون الله وتوفيقه .‏

وهذا المعني يظهر جليا في دعوة الأنبياء لبني إسرائيل , فكل نبي يموت يبعث الله ‏عز وجل خلفا له ليحي دعوة الأنبياء قبله , كما ثبت في الحديث : " كَانَتْ بَنُو ‏إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي .. " ‏

وقد ذكر الله عز وجل لنا في القرآن أنه كلما جاء نبي يجدد نفس دعوة الأنبياء قبله , ‏فيقول تعالى عن نوح عليه السلام : " لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا ‏اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ "‏ ‏.‏

ثم عن هود عليه السلام : " وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ ‏إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ "‏ ‏.‏

ثم عن صالح عليه السلام : " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا ‏لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي ‏أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "‏ ‏.‏

ثم عن شعيب عليه السلام : " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ ‏مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ ‏أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "‏ ‏ .‏

هذه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام , تظهر جليا حقيقة الدعوة التجديدية , إنها ‏إحياء لما كان عليه أسلافهم من الرسل والأنبياء , كلهم يقول : " اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ ‏مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه " .‏

ويظهر ذلك أيضا في تحذير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمته الدجال حيث يقول : ‏‏" .. إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ .. "‏ ‏ , يعني أنه صلى الله عليه ‏وسلم يحي ما فعله أسلافه من الأنبياء من النذارة من الدجال , كما فعل كل نبي ‏قومه .‏

ونجمل في نقاط بعض ثمرات التجديد :‏

‏1-‏التجديد يظهر ما قد يخفى من معالم الدين , فتحفظ أعراض ودماء وأموال تهدر ‏بسبب خفائها .‏

‏2-‏التجديد يرفع غضب الله عز وجل ومقته ‏ الذي تسببه المعاصي والبدع الناتجة عن ‏نسيان الشرائع والغفلة عنها.‏

‏3-‏التجديد يدحر قوى الكفر بوجه أو بآخر .‏

‏4-‏التجديد يبعث الأمل في قلوب العاملين والعابدين بعد فترات يأس قد تصيبهم .‏

‏5-‏التجديد يحي الإيمان في النفوس .‏

‏6-‏التجديد ينفي البدع , ويذل أهلها , ويذهب دولتهم .‏

‏7-‏التجديد ينفي الغلو , ويعيد أهله إلى جادة الطريق .‏

وهكذا تتجلى لنا حكمة التجديد الديني , وتفضل الله عز وجل به علينا فله الحمد كله ‏تبارك وتعالى .‏

المبحث الثالث : الفرق بين التجديد والحداثة .‏

‏( العلمانية )( القومية ) ( الحداثة )( الشيوعية )( القوانين الوضعية ) ... أسماء ‏ومذاهب عرفها وأسسها الكفار , ثم تأثر بها وتشربها فئام من بني جلدتنا ‏ ‏ فتبنوها ‏كمشاريع لنهضة العالم الإسلامي ، زعموا . ‏

وههنا نذكر الفرق بين التجديد والحداثة لأنه مما يلتبس على كثير من عامة المسلمين ‏في أيامنا هذه , وخاصة بعد ذيوع أمر أدعياء التجديد ورواد الحداثة الذين يعملون ‏ليل نهار للتلبيس علي المسلمين لجرهم إلى ضلالاتهم .‏

الحداثة في حقيقتها هي عين العلمانية حيث إنها دعوة لتبني موقف الغرب من الدين ‏والتراث بحجة أن الغرب قد تقدم لأنه استبعد الدين من حياته .‏

وهكذا دعوا إلى العلمانية ، بمعنى إبعاد الدين عن الدولة والنظام الذي يحكم المجتمع ‏، مع عدم الاعتراف بشريعة الله وحكمه ، وترك مسائل التشريع للعقل البشرى الذي ‏يحكم فيها بما يريد وهذا هو المعنى الحقيقي للحداثة .‏

يقول الأستاذ/ سالم مبارك الفلق في ثنايا دفاعه عن اللغة العربية : ‏

والحداثة أمرها محدث وشر الأمور المحدثات , لم يفكروا في حداثة تحافظ على ‏خصوصيتنا وهويتنا وشريعتنا , وتوقف نزيف الكلمة الطيبة التي نحروها على ‏نصب الغموض والرمز وعبث القول , والحداثة العربية في جميع صورها إنما ‏راجت لسببين أساسين هما:‏

‏1-جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، و لُهاثهم خلف "العصرنة"!!‏

‏2-الخلط بين الحداثة ـ وإن شئت فقل بين الهدم ـ والتجديد.اهـ

وصدق الأستاذ الفلق في وصفه الحداثة أنها لا تحافظ على خصوصية ولا هوية ولا ‏شريعة , لأن أهلها يسيرون خلف الكفار العلمانيين , وأنى لهؤلاء معرفة الشريعة ‏فضلا عن الحفاظ عليها .‏

وإذا كانت هذه هي حقيقة الحداثة , فمن البعيد جدا مقارنتها بالتجديد الذي أخبر به ‏النبي صلى الله عليه وسلم , ومن البعيد أيضا أن يحدث بينهما أي نوع من الخلط ‏واللبس , لكنه مكر ودهاء الحداثيين , مصحوب بغفلة وسذاجة المخدوعين بهم .‏

ووجه التلبيس بين التجديد والحداثة الذي يدخل منه الحداثيون , أنهما يدلان على ‏معنى واحد في أكثر الاستخدامات اللغوية , وهذا وإن كان صحيحا إلا أن الاستخدام ‏الشرعي لكلا الكلمتين جعل البون بينهما شاسعا كما لا يخفى على من له أدنى ‏معرفة .‏

فالتجديد ـ كما تقدم ـ إحياء لما اندرس من معالم الشريعة .‏

والحداثة من الحَدَث وهو كما يقول ابن الأثير :‏

الأمرُ الحادِث المُنكَر الذي ليس بمُعْتاد ولا معروف في السُّنَّة .اهـ

وقال أيضا : ‏

ومنه الحديث [ إيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمور ] جمع مُحْدَثة - بالفتح - وهي ما لم يكن ‏معروفا في كتاب ولا سُنَّة ولا إجْماع .اهـ

وفي (تهذيب اللغة) للأزهري: (ومحدثات الأمور: ما ابتدعه أهل الأهواء من ‏الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها وقال ‏صلى الله عليه وسلم‏: «كل محدثٍ بدعة، وكل ‏بدعة ضلالة»). اهـ

وبإيجاز نذكر بعض الفروق بين التجديد والحداثة :‏

‏1-‏التجديد إحياء وإعلاء للشريعة , والحداثة إقصاء وهدم لها .‏

‏2-‏التجديد يقوم به أهل العلم والفضل والديانة , والحداثة روادها من قد علم ‏بعدهم عن الدين ومحاربته والاستهزاء به .‏

‏3-‏التجديد يبعث على الاعتماد على الله عز وجل والثقة بالنفس , والحداثة تقليد ‏لمن لا يعلم عنه علم ولا دين بل وللكفار المحاربين .‏

‏4-‏التجديد بعث لصحيح الفقه في الدين ونصرة الإسلام وأهله , والحداثة بعث ‏لأراء العلمانيين ممن ساروا على نهج أسلافهم من الكفار والمنافقين والجهلة.‏

‏5-‏التجديد فرحة وعز للمؤمنين وحسرات وذل لأعدائهم , والحداثة تمكين ‏لأعداء الإسلام .‏

‏6-‏وبالجملة التجديد إسلام وتوحيد وطاعة , والحداثة كفر ونفاق تارة ومعصية ‏وبدعة وجهل أخرى.‏

المبحث الرابع : تجديد الخطاب الديني بين التجديد والحداثة .‏

تبين مما تقدم أن التجديد إحياء لما اندرس من معالم الشريعة .‏

والحداثة استحداث مالا يعرف في كتاب ولا سُنَّة ولا إجْماع مما يلهث به أهلها وراء ‏الشرق والغرب من المناهج الفاسدة ـ ضرورة ـ .‏

وأما مصطلح " الخطاب الديني " فرغم أنه لم يكن معروفا عند السلف , إلا أنه لابد ‏أن يوجه ـ على الأقل ـ توجيها لغويا يليق به , ولا يخرج به عن الإطار الشرعي .‏

فنقول : الخطاب الديني هو ما يواجه به علماء أمة الإسلام عامة المسلمين وغيرهم ‏من غير المسلمين , قلنا هذا لأن العلماء فقط هم من لهم حق الكلام وتوجيه البشرية ‏وهدايتها لمنهج ربها تبارك وتعالى , وهم ورثة الأنبياء كما ثبت بذلك الحديث ‏ , ‏ومقتضى وراثة النبوة وراثة التوجيه والهداية , وغيرهم ليست له هذه المزية , بل إن ‏غير العلماء إذا تكلم ووجه الناس فقد أساء لنفسه بوضعها فوق ما حصلت من العلم ‏المؤهل لنيل هذه المرتبة , ولعله بتماديه يندرج تحت " الرويبضة " الذي ورد في ‏الحديث :‏

"سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و ‏يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة . قيل : و ما ‏الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة "‏

قال ابن الأثير في النهاية :‏الرُّوَيبضة : تصغير الرَّابِضة وهو العاجز الذي رَبَضَ عن مَعَالي الأمُور وقعَد عن ‏طَلَبها وزيادة التَّاء للمبالغَة .اهـ

هكذا رغم عجزه وقعوده عن تعلم علوم الشريعة يتكلم في أمور العامة فمثل هذا لا ‏يحق له الكلام , وإذا أنيطت به هذه المهمة في الصحافة ونحوها كان من علامات ‏الساعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الساعة : " إذا وسد الأمر ‏إلى غير أهله فانتظر الساعة "‏

فإذا ثبت أن الخطاب حق للعلماء وحدهم , يثبت أيضا أن التجديد المطلوب للخطاب ‏الديني هو إعادة العلماء لألفاظ النبوة شرحا وتقريرا وغرسا في قلوب البشرية , ولا ‏مانع عندئذ من استخدام الوسائل التقريبية والتوضيحية التي لا تتنافى مع الأصول ‏والأدلة الشرعية , وليس هذا من باب التجديد ؛ بل هو من باب العمل بما هو مقرر ‏شرعا , وقد يدخل استخدام هذه الوسائل في التجديد إذا أهمل العمل به في عصر من ‏العصور أو من قبل فئة من الفئات .‏

2- الفصل الثاني :‏

تخريج حديث التجديد وشرحه .‏

وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول : تخريج الحديث .‏

قال أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في سننه ‏ : ‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَهْرِىُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ أَبِى أَيُّوبَ عَنْ ‏شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ الْمَعَافِرِىِّ عَنْ أَبِى عَلْقَمَةَ ‏ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ فِيمَا أَعْلَمُ‏ ‏ عَنْ رَسُولِ ‏اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ ‏مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " .‏

‏ قَالَ أَبُو دَاوُدَ : رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ الإِسْكَنْدَرَانِىُّ لَمْ يَجُزْ بِهِ شَرَاحِيلَ ‏ ‏.‏

وأخرجه الحاكم ‏ والطبراني في الأوسط‏ ‏ وغيرهم من طريق ابن وهب ـ وهو عبد ‏الله ـ به , وهو حديث صحيح , صححه الحافظ العراقي ‏ وقواه الحافظ ابن حجر‏ ‏ ‏وصححه الألباني في الصحيحة ‏.‏

المبحث الثاني : شرح الحديث إجمالا .‏

في هذا الحديث الشريف يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيبعث ‏لأمته مجددا كل قرن من الزمان لتعديل وتصويب مسارها , وقد ظهر فيما تقدم ‏شدة احتياج الناس لمن يعيدهم إلى الطريق المستقيم , ولعل تحديد مدة البعث بهذه ‏المدة لكونها الفترة الزمنية التي يغلب على الناس فيها أنهم قد نسوا معالم الشريعة ‏خلالها , أو ضعفت هممهم , فيكون المجدد دافعا لهم ومذكرا , ولا يلزم في ‏المجدد أن يكون حاكما ولا فردا واحدا , بل قد يكون حاكما وقد يكون واعظا أو ‏عالما بالحديث أو الفقه أو غيرها من العلوم , وقد يكون فردا أو مجموعة كل في ‏مجاله , كل ذلك يحتمله لفظ الحديث .‏

وقد يطعن بعض من لا علم في الحديث بدعوى أن التاريخ لم يكن معلوما زمن ‏النبي صلى الله عليه وسلم , والجواب : ولماذا لا يقال إن هذا الحديث من علامات ‏النبوة الظاهرة لمن تأمل وكان من ذوي البصائر , يقول السندي :‏

وَقَدْ رَوَيْت مَرَّة الْحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّه ‏تَعَالَى يَبْعَث عَلَى رَأْس كُلّ مِائَة سَنَة مَنْ يُجَدِّد لِهَذِهِ الْأُمَّة أَمْر دِينهَا " فَبَلَغَنِي عَنْ ‏بَعْض مَنْ لَا عِلْم عِنْده أَنَّهُ اِسْتَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ : مَا كَانَ التَّارِيخ فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى ‏اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقُول : " عَلَى رَأْس كُلّ مِائَة سَنَة " وَإِنَّمَا حَدَثَ التَّارِيخ ‏بَعْده . فَقُلْت : إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِجَمِيعِ مَا يَحْدُث بَعْدَهُ ؛ فَعَلَّقَ أُمُورًا ‏كَثِيرَة عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ بَعْده , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي وَقْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ ‏وَسَلَّمَ ‏ .. اهـ

المبحث الثالث : مجالات التجديد .‏

قد يظن الظان أن التجديد ينحصر في أولي الأمر من الحكام القائمين بقهر أعداء الله ‏ونشر الإسلام والعدل في مشارق الأرض ومغاربها , أو في طائفة من العلماء الذين ‏عم بهم النفع في فن من فنون العلم كالفقه والحديث ونحوهما , وهذه ظن لا تؤيده ‏الأدلة ولا يستسيغه المدقق المحقق , فإذا كان التجديد إحياء لما اندرس من معالم ‏الشريعة , فكل من يحي أي معلم من معالم الشريعة يصح أن يوصف بالتجديد , مهما ‏كان مجال هذه المجدد .‏

وممن بين عدم انحصاره في الحكام ؛ ابن القيم رحمه الله تعالى حيث

‏ يقول : ‏

فالواجب على ولي الأمر فعل ما أمره الله به وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين ‏الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم ومنعهم من ‏الولايات في جميع أرض الإسلام لا يلتفت في ذلك إلى مرجف أو مخذل يقول إن لنا ‏عندهم مساجد وأسرى نخاف عليهم فإن الله تعالى يقول : " ولينصرن الله من ينصره ‏إن الله لقوي عزيز " , وإذا كان نوروز في مملكة التتار قد هدم عامة الكنائس على ‏رغم أنف أعداء الله , فحزب الله المنصور وجنده الموعود بالنصر إلى قيام الساعة ‏أولى بذلك وأحق ؛ فإن النبي أخبر أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة ونحن ‏نرجو أن يحقق الله وعد رسوله حيث قال : ( يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة ‏سنة من يجدد لها دينها . ) ويكون من أجرى الله ذلك على يديه وأعان عليه من أهل ‏القرآن والحديث داخلين في هذا الحديث النبوي , فإن الله بهم يقيم دينه كما قال : " لقد ‏أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا ‏الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي ‏عزيز " .اهـ

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المقصود بالمجدد في حديث التجديد : الفقهاء ‏خاصة , لعموم الانتفاع بهم , وقد أجابهم ابن الأثير رحمه الله كما سيأتي في المبحث ‏الثالث من الفصل الثالث .‏

وقد قرر الحافظ في الفتح‏ ‏ أن المجددين يكونون من بين شجاع وبصير بالحرب , ‏وفقيه , ومحدث , ومفسر , وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وزاهد , ‏وعابد .‏

وهكذا في كل مناحي الحياة : كل من أعاد الناس للحق والشرع الحكيم فهو مجدد ‏لمعالم هذا الدين .‏

وسيأتي في " المبحث الخامس " من " الفصل الثالث " مزيد بيان لمجالات التجديد ‏العملي والعلمي .‏

المبحث الرابع : صفات المجددين .‏

لا توجد نصوص صريحة تنص على صفات المجددين , ولكن يمكن معرفة الصفات المشار إليها ‏بالنظر في كلام أهل العلم في صفة المجدد , وكذا بالنظر في صفات من وصف بالتجديد على مدار ‏التاريخ .‏

فمما قالوا عن المجدد : ‏

‏1-قال المناوي : ‏

‏(يجدد لها دينها) أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم وينصر أهله ويكسر أهل ‏البدعة ويذلهم قالوا ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة . اهـ

وقال شارحا حديث التجديد :( من ) أي مجتهدا واحدا أو متعددا قائما بالحجة ناصرا ‏للسنة له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات وقوة استنباط الحقائق والدقائق النظريات ‏من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد ‏يقظان .اهـ

‏2-‏قال العلقمي :‏

يجدد ما اندرس من أحكام الشريعة , وما ذهب من معالم السنن , وخفي من العلوم الظاهرة ‏والباطنة .اهـ

‏3-‏قال ابن الأثير :‏

‏... لكن الذي ينبغي أن يكون المبعوث على رأس المائة : رجلا مشهورا معروفا ، ‏مشارا إليه في كل فن من هذه الفنون ، فإذا حمل تأويل الحديث على هذا الوجه ‏كان أولى ، وأبعد من التهمة ، وأشبه بالحكمة .. اهـ

‏4-‏قال السيوطي في منظومته ‏ :‏

لقد أتى في خبر مشتهر * * رواه كل عالم معتبر

بأنه في رأس كل مائة * * يبعث ربنا لهذى الأمة‏

منا عليها عالما يجدد * * دين الهدى لأنه مجتهد‏

وقال أيضا :‏

يشار بالعلم إلى مقامه * * وينصر السنة في كلامه

وأن يكون جامعا لكل فن ** وأن يعم علمه أهل الزمن

وأن يكون في حديث قد روي * * من أهل بيت المصطفى وقد قوي

 

‏5-‏قال شمس الحق العظيم آبادي :‏

فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالما بالعلوم الدينية ومع ذلك من كان عزمه وهمته آناء ‏الليل والنهار : إحياء السنن ونشرها , ونصر صاحبها وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها ‏وكسر أهلها باللسان أو تصنيف الكتب أو التدريس أو غير ذلك , ومن لا يكون كذلك لا ‏يكون مجددا البتة وإن كان عالما بالعلوم مشهورا بين الناس مرجعا لهم .اهـ

ومما تقدم وغيره يمكن إجمال القول في صفات المجدد بما يلي :‏

‏1-‏عالم بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة ‏ .‏

‏2-‏ناصر للعلم وأهله .‏

‏3-‏خاذل للبدعة وأهلها .‏

‏4-‏له ملكات الرد على المخالفين للحق .‏

‏5-‏حاضر القلب يقظ الفؤاد .‏

‏6-‏مشهور معروف , النفع به عام في أمور الدين .‏

‏7-‏متمكن من إظهار وإقامة قوانين الشرع , بنفسه أو بمن يعينه من حكام ‏عصره .‏

‏8-‏مجتهد قوي الاستنباط دقيق النظر .‏

المبحث الخامس : حقيقة التجديد الذي دل عليه الحديث .‏

التجديد هو إحياء لمنظومة الشريعة التي أنزلها الله عز وجل , ووجدت من قبل , ‏وعمل بها الناس زمنا , ثم نسيت علما أو عملا أو هما معا .‏

ومن خلال المعنى اللغوي للتجديد , وكذا أقوال العلماء في توصيفه يمكن القول : إن ‏التجديد يقدح في الذهن صورة يجتمع فيها ثلاثة معانٍ‏: ‎

أ-أن الشرع المجدد قد كان في أول الأمر موجودًا وقائمًا , وللناس به عهد علما ‏وعملا ,‏‎ ‎وهذا الذي نعبر عنه ب " الأصالة " .‏

ب-أن هذا الشرع مر عليه زمن طويل فأصابه النسيان والتفريط , وهذا الذي نعبر ‏عنه بـ " الفترة " .‏

جـ-أن ذلك الشرع يعاد إلى حالته الأولى التي كان عليها , وهذا الذي نعبر عنه بـ ‏‏"التجديد " أو إن شئت فقل : " تنشيط الأصالة " .‏

فالتجديد في حقيقته إظهار للأصالة ونفض غبار الجهل والتقصير عنها , وهذه المعان ‏الثلاثة هي التي تميز التجديد الوارد في الحديث . وكذا يصدقه تاريخ المجددين على ‏مدار الزمان فالتجديد :‏

‏1-‏إحياء وإصلاح لعلاقة المسلمين‎ ‎بدين ربهم تبارك وتعالى , وتمسك بأصوله ‏واهتداء بهديه ؛ لتحقيق العبودية الحقة والاستسلام الكامل لله عز وجل .‏

‏2-‏لا يعني إطلاقا تبديل في الدين , أو بحث خارج نطاقه عن حلول لمشاكل ‏الأمة , أوعن سبل للترفيه والرفاهية ‏.‎

‏3-‏إظهار لقدرات المجدد القيادية والتوجيهية للعودة بالأمة لسابق عهدها ونبذ ‏الانحرافات الطارئة التي أصابتها لطول زمان الجهل والتفريط .‏

فهذه ثلاثة إطارات لا بد منها , يدور فيها ويتحقق بها التجديد الديني المشروع المشار ‏إليه في الحديث المشهور .‏

مجدد قدير يعيد الأمة لشرع ربها وينفي عنها كل انحراف عنه .‏

وللتجديد تقسيم يفرضه واقع الحال :‏

‏1-‏تجديد علمي .‏

‏2-‏تجديد عملي .‏

أولا التجديد العلمي :‏

وهو إزالة للغبار العالق بالعلوم على مدار السنين .‏

وللتجديد العلمي مجالات متعددة بحسب تعدد العلوم , ومنها :‏

التجديد في علم الحديث مثلًا , وهو إظهار ما قد يخفى من حديث رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم أو تخفى صحته أو ضعفه .‏

وقد قام به على مدار التاريخ جملة من الأئمة المتمكنين اصطفاهم الله عز وجل ‏لهذه المهمة.‏

ثانيا التجديد العملي :‏

وهو إعادة الأمة إلى ما كانت عليه من العمل الصالح الذي لا تشوبه البدع والغلو من ‏جهة ولا التقصير والتفريط من جهة أخرى , ويشمل كافة جوانب العبادات ‏والمعاملات , ومن ذلك :‏

التجديد في مجال التوحيد :‏

ويكون بتحقيق التوحيد ونبذ الشرك , فقد خلق الله عز وجل عباده على فطرة ‏التوحيد فحرفتهم الشياطين عنها , كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب ‏العزة تبارك وتعالى في الحديث القدسي : " ... وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ‏وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم ‏أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ... "‏ ‏. ‏

فكانت مهمة الأنبياء إعادة البشرية لعبادة الله وحده , كما قال الله عز وجل : " ‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .. "‏ ‏ .‏

وكانت هي نفسها مهمة الصحابة رضي الله عنهم كما أمر رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم وفد عبد القيس حين قدموا عليه صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله ‏إنا حي من ربيعة وبيننا وبينك كفار مضر ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم ‏فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة إذا نحن أخذنا به .. فكان مما ‏أمرهم : " .. اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا "‏ ‏ .‏

وهكذا كافة المجالات العملية يدخلها التجديد وتفتقر إليه في زمن الفترة عن العمل ‏والتقاعس عنه , ومن أمثلة ذلك :‏

التجديد في مجالات الجهاد والمعاملات المالية والأنكحة والقضاء والدعوة والأمر ‏بالمعروف والنهي عن المنكر .‏

3- الفصل الثالث .‏

دعاوى التجديد .‏

وفيه ثلاثة مباحث‏

المبحث الأول : من ادعى التجديد لنفسه .‏

ادعى أقوام من أهل العلم وغيرهم لأنفسهم التجديد , والدعاوى لا تعدوا كونها ‏كذلك حتى تقام عليها البينات , فمن هؤلاء مثلا : الإمام السيوطي قال في قصيدته ‏الموسومة "تحفة المهتدين بأخبار المجددين"‏ ‏ :‏

الحمد لله العظيم المنة

المانح الفضل لأهل السنة

ثم الصلاة والسلام نلتمس

على نبي دينه لا يندرس

لقد أتى في خبر مشتهر

رواه كل عالم معتبر

بأنه في رأس كل مائة

يبعث ربنا لهذى الأمة‏

منا عليها عالما يجدد

دين الهدى لأنه مجتهد‏

فكان عند المائة الأولى عمر

خليفة العدل بإجماع وقر

والشافعي كان عند الثانية

لما له من العلوم السامية

وابن سريج ثالث الأئمة

والأشعري عده من أمه‏

والباقلاني رابع أو سهل أو

الإسفرايني خلف قد حكوا‏

والخامس الحبر هو الغزالي

وعده ما فيه من جدال

والسادس الفخر الإمام الرازي

والرافعي مثله يوازي‏

والسابع الراقي إلى المراقي

ابن دقيق العيد باتفاق

والثامن الحبر هو البلقيني

أوحافظ الأنام زين الدين‏

والشرط في ذلك أن تمضي المائة

وهو على حياته بين الفئة‏

يشار بالعلم إلى مقامه

وينصر السنة في كلامه

وأن يكون جامعا لكل فن

وأن يعم علمه أهل الزمن

وأن يكون في حديث قد روي

من أهل بيت المصطفى وقد قوي

وكونه فردا هو المشهور

قد نطق الحديث والجمهور

وهذه تاسعة المئين قد

أتتولا يخلف ما الهادي وعد‏

وقد رجوت أنني المجدد

فيها بفضل الله ليس يجحد

وآخر المئين فيما يأتي

عيسى نبي الله ذو الآيات‏

يجدد الدين لهذي الأمة

وفي الصلاة بعضنا قد أمه‏

مقرر لشرعنا ويحكم

بحكمنا إذ في السماء يعلم

وبعده لم يبق من مجدد ‏

ويرفع القرآن مثل ما بدي .‏

 

فبعد أن عدد المجددين في نظره رجا أن يكون هو المجدد على رأس المائة ‏التاسعة , وللسيوطي مجهود ضخم في التأليف في شتى مجالات الإسلام , وقد ‏زعم لنفسه الاجتهاد في علوم أربعة : الفقه والعربية والحديث والتفسير , كما في ‏‏" الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض " له ‏رحمه الله تعالى , وأيً كان الأمر فالسيوطي إمام كبير القدر وفضله لا ينكره إلا ‏جاهل به .‏

وممن زعم الاجتهاد لنفسه : الدكتور حسن عبد الله الترابي , الحاصل على ‏الماجستير من لندن ، والدكتوراة من باريس‎ ‎‏, وقد ظهر جليا فى كتبه وادعاءاته تأثره ‏بالدراسة في تلك الجامعات النصرانية العلمانية , وهو مثل جلي للانحراف عن ‏المنهج الشرعي للتجديد , فمما تبناه من آراء تنافي ثوابت الشرع :‏

‏1ـ قوله بعدم اكتمال الدين وأخذه لشكله النهائي في أي عصر من العصور حتى ‏عصر الرسول صلى الله عليه وسلم .‏ ‏ ولعله بهذا يمهد الخروج عن أطر الشريعة ‏باسم الشريعة والتجديد .‏

‏2ـ قوله بتبدل معايير الحق، فما كان حقاً قبل ألف سنة قد يكون باطلاً الآن ‏والعكس .‏

‏3ـ دعوته إلى علم جديد غير معهود عن السلف الصالح .‏

‏4ـ دعوته للتجديد في فقه العقيدة .‏

‏5ـ قوله بتجاوز حركته الحدود المألوفة للإسلام .‏

وهكذا يتبين تأثر الترابي بالمعنى الغربي للتجديد , وأن النظرة الغربية طاغية ‏عليه , وهذا من خطورة التعلم في بلاد الكفار دون حصانة شرعية كافية .‏

وممن ادعى التجديد كل من ادعى أنه المهدي المنتظر كابن تومرت , والمهدي ‏السوداني , ومحمد بن عبد الله القحطاني وغيرهم كثير .‏

وهكذا يظهر أنه ليس كل من ادعى التجديد يقبل قوله , بل ينظر في حاله فإن كان ‏ممن ذاع نشره للدين الصحيح على منهاج النبوة ورد الناس إليه فهو مجدد وإلا ‏فلا .‏

المبحث الثاني : تنازع الطوائف في تعيين المجددين .‏

تقدم في مبحث " مجالات التجديد " تنازع بعض الطوائف وظنهم انحصار ‏التجديد فيهم , قال ابن الأثير :‏

‏ قد تكلم العلماء في تأويل هذا الحديث ، كل واحد في زمانه ، وأشاروا إلى القائم ‏الذي يجدد للناس على رأس كل مائة سنة ، كأن كل قائل قد مال إلى مذهبه وحمل ‏تأويل الحديث عليه .اهـ

وقال المناوي :‏

‏ قال ابن كثير : قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث .اهـ

وقال بدر الدين العيني :‏

‏.. وقال الإمام أحمد بن حنبل يروى في الحديث : أن الله تعالى يبعث على رأس كل ‏مائة عام من يصحح لهذه الأمة دينها , فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد ‏العزيز . قال النووي في تهذيب الأسماء : حمله العلماء في المائة الأولى على عمر , ‏والثانية على الشافعي , والثالثة على ابن شريح . وقال الحافظ ابن عساكر : هو الشيخ ‏أبو الحسن الأشعري , والرابعة على ابن أبي سهل الصعلوكي , وقيل القاضي ‏الباقلاني , وقيل أبو حامد الإسفرايني , وفي الخامسة على الغزالي . انتهى ‏

وقال الكرماني : لا مطمح لليقين فيه , فللحنفية أن يقولوا هو الحسن بن زياد في ‏الثانية , والطحاوي في الثالثة , وأمثالهما . وللمالكية أنه أشهب في الثانية , وهلم ‏جرا . وللحنابلة أنه الخلال في الثالثة ,والراغوني في الخامسة , إلى غير ذلك . ‏وللمحدثين أنه يحيى بن معين في الثانية , والنسائي في الثالثة , ونحوهما . ولأولي ‏الأمر أنه المأمون والمقتدر والقادر , وللزهاد أنه معروف الكرخي في الثانية , ‏والشبلي في الثالثة , ونحوهما .اهـ

المبحث الثالث : الجمع بين تلك الأقوال وتحقيق الصواب فيها .‏

الجمع بين هذه الأقوال سبيله أن يقال : لفظ الحديث محتمل تعدد المجددين , فالعالم ‏المجدد قد يكون في مكان ينتشر فيه علمه أو طائفة ينتشر بينها علمه , بينما يكون ‏غيره من العلماء في أماكن أخرى أو وسط طوائف أخرى يقومون بنفس المهمة , قال ‏ابن الأثير :‏

والأولى أن يحمل الحديث على العموم ، فإن قوله صلى الله عليه وسلم :" إن الله ‏يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " لا يلزم منه أن ‏يكون المبعوث على رأس المائة رجلا واحدا ، وإنما قد يكون واحدا ، وقد يكون ‏أكثر منه فإن لفظة ( من ) تقع على الواحد والجمع ، وكذلك لا يلزم منه أن يكون ‏أراد بالمبعوث : الفقهاء خاصة ، كما ذهب إليه بعض العلماء ، فإن انتفاع الأمة ‏بالفقهاء ، وإن كان نفعا عاما في أمور الدين ، فإن انتفاعهم بغيرهم أيضا كثير ‏مثل أولي الأمر، وأصحاب الحديث والقراء والوعاظ ، وأصحاب الطبقات من ‏الزهاد ، فإن كل قوم ينفعون بفن لا ينفع به الآخر ، إذ الأصل في حفظ الدين حفظ ‏قانون السياسة ، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء , ويتمكن من إقامة ‏قوانين الشرع ، وهذا وظيفة أولي الأمر ، وكذلك أصحاب الحديث : ينفعون ‏بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع ، والقراء ينفعون بحفظ القراءات وضبط ‏الروايات ، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا ‏، فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر ، لكن الذي ينبغي أن يكون المبعوث على ‏رأس المائة : رجلا مشهورا معروفا ، مشارا إليه في كل فن من هذه الفنون ، فإذا ‏حمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى ، وأبعد من التهمة ، وأشبه ‏بالحكمة .. اهـ

إلى أن قال : وتقرير أقوال المجتهدين متعين ، فإذا ذهبنا إلى تخصيص القول على ‏أحد المذاهب ، وأولنا الحديث عليه، بقيت المذاهب الأخري خارجة عن احتمال ‏الحديث لها، وكان ذلك طعنا فيها ؛ فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث ‏جماعة من الأكابر المشهورين على رأس كل مائة سنة يجددون للناس دينهم، ‏ويحفظون مذاهبهم التي قلدوا فيها مجتهديهم وأئمتهم .. اهـ

قال المناوي :‏

‏ قال ابن كثير : قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث , والظاهر أنه يعم ‏جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي ‏وغيرهم .. اهـ

وقال : ‏

‏( من ) أي مجتهدا واحدا أو متعددا قائما بالحجة ناصرا للسنة له ملكة رد المتشابهات ‏إلى المحكمات وقوة استنباط الحقائق والدقائق النظريات من نصوص الفرقان ‏وإشاراته ودلالاته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد يقظان . قال الحراني : ومن ‏اسم مبهم يشمل الذوات العاقلة آحادا وجموعا واستغراقا .اهـ

وقال : قال الذهبي : ( من ) هنا للجمع لا للمفرد فنقول مثلا : على رأس الثلاثمائة : ‏ابن سريج في الفقه , والأشعري في الأصول , والنسائي في الحديث . وعلى الستمائة ‏مثلا : الفخر الرازي في الكلام , والحافظ عبد الغني في الحديث , وهكذا .اهـ

وقال : وقال في الفتح : نبه بعض الأئمة على أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل قرن ‏واحد فقط بل الأمر فيه كما ذكره النووي في حديث : " لا تزال طائفة من أمتي ‏ظاهرين على الحق " من أنه يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع ‏المؤمنين , ما بين شجاع وبصير بالحرب , وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر ‏بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد , ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد ؛ بل ‏يجوز اجتماعهم في قطر واحد وتفرقهم في الأقطار , ويجوز تفرقهم في بلد وأن ‏يكونوا في بعض دون بعض , ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى ‏أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد , فإذا انقرضوا أتى أمر الله قال الحافظ ابن ‏حجر : وهذا متجه فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا تنحصر في نوع من ‏الخير , ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعى ذلك في ‏ابن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات ‏الخير وتقدمه فيها , ومن ثم ذكر أحمد أنهم كانوا يحملون عنه الحديث , وأما من بعده ‏فالشافعي وإن اتصف بالصفات الجميلة والفضائل الجمة لكنه لم يكن القائم بشأن ‏الجهاد والحكم بالعدل , فعلى هذا كل من اتصف بشيء من ذلك عند رأس المائة هو ‏المراد تعدد أم لا. انتهى

4ـ الفصل الرابع .‏

المجددون من علماء اليمن وأثرهم على الصحوة المباركة .‏

وفيه أربعة مباحث

المبحث الأول : شهادة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء لأهل اليمن ‏وفقههم وحكمتهم .‏

شهد العلماء قديما وحديثا لأهل اليمن بالفقه والحكمة , وأول هذه الشهادات شهادة ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى ‏اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :‏

‏" أتاكم أهل اليمن أَضعف قلوبا وأرق أفئدة الفقه يمان والحكمة يمانية "‏

قال الحافظ في الفتح :‏

وحاصله أن قوله : " يمان " يشمل من ينسب إلى اليمن بالسكنى وبالقبيلة لكن ‏كون المراد به من ينسب بالسكنى أظهر بل هو المشاهد في كل عصر من أحوال ‏سكان جهة اليمن وجهة الشمال فغالب من يوجد من جهة اليمن رقاق القلوب ‏والأبدان وغالب من يوجد من جهة الشمال غلاظ القلوب والابدان .. اهـ

بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنهم خيار من في الأرض فعن جبيرِ بْنِ مطعِم ‏رَضِيَ اللَّه عنه قال بينا نحن مع رسول اللَه صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ إِذْ ‏قَالَ :‏

‏ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ كَأَنَّهُمْ السَّحَابُ هُمْ خِيَارُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ... "‏

ولقائل أن يقول ولماذا لم يشتهر من علماء اليمن إلا القليل , يجيب عن ذلك ‏الشوكاني رحمه الله حسب رؤيته فيقول :‏

‏... ولا ريب أن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهم في ‏الزيدية مالا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال فإن في ديار ‏الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عددا يجاوز الوصف يتقيدون بالعمل بنصوص ‏الأدلة ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية وما يلتحق بها من دواوين ‏الإسلام المشتملة على سنة سيد الأنام ولا يرفعون إلى التقليد رأسا لا يشوبون ‏دينهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها بل هم ‏على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتاب الله وما صح من سنة ‏رسول الله مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التي هي آلات علم الكتاب والسنة من نحو ‏وصرف وبيان وأصول ولغة وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية ولو لم ‏يكن لهم من المزية إلا التقيد بنصوص الكتاب والسنة وطرح التقليد فإن هذه ‏خصيصة خص الله بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة ولا توجد في ‏غيرهم إلا نادرا ولا ريب أن في سائر الديار المصرية والشامية من العلماء ‏الكبار من لا يبلغ غالب أهل ديارنا هذه إلى رتبته ولكنهم لا يفارقون التقليد الذي ‏هو دأب من لا يعقل حجج الله ورسوله ومن لم يفارق التقليد لم يكن لعلمه كثير ‏فائدة وإن وجد منهم من يعمل بالأدلة ويدع التعويل على التقليد فهو القليل النادر ‏كابن تيمية وأمثاله وإني لأكثر التعجب من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين ‏الموجودين في القرن الرابع وما بعده كيف يقفون على تقليد عالم من العلماء ‏ويقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله .اهـ

وسبب آخر يشير إليه الشوكاني أثناء وصفه لكتاب ابن الوزير " العواصم ‏والقواصم " يقول :‏

‏... ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر اليمن وأهله ولكن ‏أبى ذلك لهم ما جبلوا عليه من غمط محاسن بعضهم لبعض ودفن مناقب ‏أفاضلهم .اهـ

وهذا السبب الأخير ـ التحاسد ـ إنما يعني به زيدية عصره , ولاغرابة في ذلك ‏فإن ابن الوزير حط عليهم في الرد ما لا طاقة لهم بدفعه , أما من نهج منهج ‏السلف من العلماء فإن الإنصاف شعارهم ولله الحمد .‏

المبحث الثاني : من هم مجددو اليمن .‏

في تاريخ اليمن عدد غير قليل من الأئمة المتميزين يمهد بعضهم لبعض , فابتداء ‏بالصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم جميعا ـ الذين نزلوا اليمن مثل علي بن أبي ‏طالب ومعاذ بن جبل مع أبي موسى الأشعري ـ الذي أصله من اليمن ـ ومرورا ‏بطاووس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح وعبد الرزاق بن همام و شيخه معمر ‏بن راشد ـ الذي نزل اليمن واستقر بها ـ وهشام بن يوسف الصنعاني والإمام مالك ‏بن أنس ـ إمام دار الهجرة ـ وغيرهم الكثير والكثير , ويصدق وصف التجديد ‏على كثير منهم كل في مجاله , ومن هؤلاء النوابغ علماء أجلاء من المتأخرين ‏منهم : الأئمة ابن الوزير والصنعاني والشوكاني , وفي هذه الأسطر القليلة ‏نعرض لموجز نترجم فيه هؤلاء الثلاثة ‏ إبرازا لجهودهم التجديدية .‏

أولا : العلامة السيد محمد بن إبراهيم بن على بن المرتضى المشهور بابن ‏الوزير , ينتهي نسبه للحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما , ولد سنة ‏‏775 وتوفي سنة 840 هـ , قرأ على أكابر مشايخ صنعاء وصعدة وسائر المداين ‏اليمنية ومكة وتبحر في جميع العلوم وفاق الأقران واشتهر صيته وبعد ذكره ‏وطار علمه في الأقطار , وصنف في الرد على الزيدية .‏

وممن أثنى عليه :‏

الإمام الصنعاني حيث قال في كتابه : " توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار " ‏لابن الوزير :‏

وبعد فهذا شرح كتبته على "تنقيح الأنظار" تأليف الإمام الحافظ العلامة النظار ‏محمد بن إبراهيم الوزير أسكنه الله جنات تجري من تحتها الأنهار! فإنه جمع فيه ‏نفائس تحقيقات أئمة الآثار وأضاف إليه من أنظاره ما هو نور للبصائر .اهـ

والإمام الشوكاني يقول :‏

‏... وبالجملة فصاحب الترجمة ممن يقصر القلم عن التعريف بحاله وكيف يمكن ‏شرح حال من يزاحم أئمة المذاهب الأربعة فمن بعدهم من الأئمة المجتهدين في ‏اجتهاداتهم ويضايق أئمة الأشعرية والمعتزلة ‏ في مقالاتهم , ويتكلم في الحديث ‏بكلام أئمته المعتبرين مع إحاطته بحفظ غالب المتون ومعرفة رجال الأسانيد ‏شخصا وحالا وزمانا ومكانا وتبحره في جميع العلوم العقلية والنقلية على حد ‏يقصر عنه الوصف ومن رام أن يعرف حاله ومقدار علمه فعليه بمطالعة ‏مصنفاته فإنها شاهد عدل على علو طبقته فإنه يسرد في المسألة الواحدة من ‏الوجوه ما يبهر لب مطالعه ويعرفه بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا الإمام ..اهـ

إلى أن قال :‏

ولو قلت إن اليمن لم ينجب مثله لم أبعد عن الصواب .اهـ ‏ ‏

أهم مصنفاته :‏

‏1-‏" العواصم والقواصم " , قال الشوكاني : الكتاب المشهور الذى لم يؤلف فى ‏هذه الديار اليمنية مثله .اهـ

‏2-‏" الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم " , ‏وهو مختصر العواصم .‏

‏3-‏" إيثار الحق على الخلق " .‏

‏4-‏" تنقيح الأنظار في علوم الآثار " .‏

وغير هذه المصنفات الكثير‏ ‏ مما لم تطله أيدي التحقيق والطباعة .‏

وخلاصة جهوده التجديدية تكمن في :‏

‏1-‏نبذه لتقليد المذهب وتحريه الحق المبني على الدليل , الذي من آثاره ظهر ‏المقبلي والصنعاني والشوكاني والحركات السلفية المعاصرة .‏

‏2-‏دعوته القوية للعودة إلى النبع الصافي نبع الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة .‏

‏3-‏قوته العلمية الهائلة التي شبهت بالأئمة الأربعة .‏

‏4-‏مصنفاته النافعة في شتى أنواع الفنون .‏

‏5-‏جهوده في مواجهة المبتدعة , وصرف الناس عنهم , والرد المفحم المطول ‏عليهم .‏

ثانيا : العلامة السيد محمد بن إسماعيل بن صلاح الكحلانى ثم الصنعانى ‏المعروف بالأمير , ينتهي نسبه إلى الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله ‏عنهما ولد سنة 1099وتوفي سنة 1182هـ , حفظ القرآن وهو في الثامنة من ‏عمره , ودرس على مشاهير علماء زمانه في اليمن ومكة والمدينة النبوية حتى ‏صار كما قال الباحث الغرازي : ‏

موسوعة علمية حوت كل فن .اهـ

وقال الإمام الشوكاني عنه :‏

الإمام الكبير المجتهد المطلق .. إلى أن قال : ‏

‏.. وبالجملة فهو من الأئمة المجددين لمعالم الدين .اهـ

أهم مصنفاته :‏

صنف الإمام الصنعاني في عامة علوم الإسلام حتى بلغت مصنفاته خمسة ‏وعشرون ومائتين مصنفا منها مما طبع :‏

‏1-‏" سبل السلام شرح بلوغ المرام "‏

‏2-‏" توضيح الأفكار شرح معاني تنقيح الأنظار "‏

‏3-‏" قصب السكر نظم نخبة الفكر "‏

‏4-‏" تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد "‏

وخلاصة جهود الإمام الصنعاني التجديدية تكمن في :‏

‏1-‏نبذه للتقليد وتحريه الحق المبني على الدليل .‏

‏2-‏دعوته القوية للعودة إلى النبع الصافي نبع الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة .‏

‏3-‏مصنفاته النافعة في عامة علوم الإسلام .‏

‏4-‏جهوده في مواجهة المبتدعة , وصدعه بالحق في أوساط المخالفين غير ‏هياب .‏

‏5-‏نشره للعلم بين العامة والخاصة .‏

ثالثا : العلامة الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني ‏ :‏

ولد سنة 1173 وتوفي سنة 1250هـ , نشأ بصنعاء ونهل من معين شيوخها , ‏وتتبع مسار من سبقه من مجددي اليمن الذين سبقوه كما قال الشيخ العمراني وقد ‏سئل ‏ :‏

‎ ‎الإمام الشوكاني رحمه‎ ‎الله يعتبر نموذجاً مشرفاً للفقيه المجدد الذي تجاوز أسوار ‏التقليد‎ ‎والمذهبية والتعصب وكان له دور إيجابي كبير في الدولة كيف استطاع ‏الإمام‎ ‎الشوكاني أن يقوم بهذا الدور الكبير ؟

فأجاب حفظه الله تعالى :‏

‎ ‎أولاً : لابد من معرفة‎ ‎أنه كان قد مهد للشوكاني العلامة ابن الأمير الصنعاني ‏وعبد القادر بن أحمد ‎ ‎والمقبلي ‏ وغيرهم من العلماء الذين سبقوه ، ما جاء ‏الشوكاني إلا وقد مهد له‏‎ ‎من سبقوه ومن حظه أنه لقي طلبة أذكياء مهتمين نشروا ‏علمه ‏ .‎

‎ ‎ثانياً : أنه صمم على‎ ‎السير في هذا الطريق ....الخ

 

ثم فرغ نفسه لإفادة الطلبة فكانوا يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة ‏دروس في فنون متعددة , وكان يفتى أهل مدينة صنعاء ومن وفد إليها بل ترد ‏عليه الفتاوى من الديار التهامية وشيوخه إذ ذاك أحياء وكادت الفتيا تدور عليه ‏واستمر يفتى من نحو العشرين من عمره فما بعد ذلك وكان لا يأخذ على الفتيا ‏شيئا تنزها فإذا عوتب في ذلك قال أنا أخذت العلم بلا ثمن فأريد إنفاقه كذلك .‏

وصنف تصانيف مطولات ومختصرات منها مما هو مطبوع :‏

‏1-‏" نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لابن تيمية الجد "‏

‏2-‏" الدراري المضية شرح الدرر البهية "‏

‏3-‏" الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "‏

‏4-‏" إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول "‏

‏5-‏" أدب الطلب‎ ‎ومنتهى الأرب "‏

‏6-‏" فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية‎ ‎من علم التفسير "‏

وخلاصة جهود الإمام الشوكاني التجديدية تكمن في :‏

‏1-‏نبذه للتقليد وتحريه الحق المبني على الدليل .‏

‏2-‏دعوته القوية للعودة إلى النبع الصافي نبع الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة .‏

‏3-‏مصنفاته النافعة في عامة علوم الإسلام .‏

‏4-‏جهوده في مواجهة المبتدعة .‏

‏5-‏قيامه بما أوجب الله عليه من إفتاء الناس .‏

وهكذا نرى التشابه الواضح بين العلماء الثلاثة في نهجهم التجديدي , وما ذاك إلا ‏لأنهم يستقون من معين واحد . ويصدرون عن منهج النبوة الذي ـ ولا بد ـ يسلكه ‏كل سائر إلى الله عز وجل .‏

المبحث الثالث : مجالات التجديد عند علماء اليمن .‏

تعددت مجالات التجديد عند علماء اليمن , فمن تلك المجالات :‏

أولا المصنفات التي أحيت عامة علوم الإسلام :‏

والمصنفات في ذاتها لا تدل على التجديد , ولكن إذا انضاف لها سعة الاستفادة ‏منها وشيوعها مع الإتقان وتعدد المجالات كان ذلك دليلا على عظم فائدتها في ‏تصويب مسار المسلمين في عصرهم وصرفهم للدين الحق .‏

فمن تلك المصنفات :‏

‏1-‏في الفقه وشرح أدلة الأحكام :‏

‏"سبل السلام شرح بلوغ المرام " للصنعاني , و" نيل الأوطار شرح منتقى ‏الأخبار " , و" السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار " , و" الدراري ‏المضية شرح الدرر البهية " وكلها للشوكاني .‏

‏2-‏في الذب عن السنة :‏

‏" العواصم والقواصم " ومختصره " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي ‏القاسم صلى الله عليه وسلم " لابن الوزير .‏

 

‏3-في التوحيد :‏

‏" إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول ‏التوحيد" لابن الوزير , و"التحف في بيان مذاهب السلف " و " شرح الصدور ‏بتحريم رفع القبور " كلاهما للشوكاني , و" تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد ‏‏" للصنعاني .‏

‏4-في آداب الطلب ومنهجيته :‏

‏" أدب الطلب ومنتهى الأرب " للشوكاني .‏

‏5-في المصطلح :‏

‏" تنقيح الأنظار في علوم الآثار " لابن الوزير, و" توضيح الأفكار شرح تنقيح ‏الأنظار " , و " قصب السكر نظم نخبة الفكر " كلاهما للصنعاني .‏

‏6-في الأصول :‏

‏" إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول " للشوكاني .‏

‏7-في التفسير :‏

‏"فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية‎ ‎من علم التفسير‎ ‎‏" للشوكاني , ‏و" التفسير " لابن الأمير الصنعاني . ‏

وهذا غيض من فيض من المطبوع مما عم به النفع من كتب هؤلاء الأئمة , وإلا ‏فماصنفوه شأنه عظيم لمن غاص في ذلك وأراد الاستقصاء .‏

ثانيا مواجهة علماء اليمن لأصحاب البدع الزيدية وغيرهم من أهل عصرهم :‏

يصف هذا أبلغ الوصف الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في ديوانه يقول :‏

 

ألهمتني نشر الحديث وسنة المختار حتى أشرقت آفاقي‏

طلعت بها شمس الحديث فأقشعت ظلم ابتداع ما لها من راق‏

فهدى الإله إلى الحديث جماعة فازوا به إذ وفقوا لوفاقي

ثبتوا على قدم الهدى وجماعة قاموا على ساق لحرب رفاقي

وتشدّدوا وتهدّدوا لكنها عادت نكايتهم إلى الإخفاق

رد الإله مكايدا منهم وما راموه للأرواح من إزهاق .اهـ

والناظر في سيرة مجددي اليمن لا تخطئ عينه ما أصابهم من فتن ومحن مع ‏أهل عصرهم , فجزاهم الله خير عن الإسلام والمسلمين .‏

المبحث الرابع : أثر مجددي اليمن على الصحوة المعاصرة .‏

لا ينكر أثر مجددي اليمن على الصحوة المعاصرة إلا من كان بعيدا عن هذه ‏الصحوة غافلا عن أحوالها , ويظهر ذلك جليا من المصنفات التي يكثر الاستفادة ‏منها هذه الأيام , فمن ينكر فضل : " سبل السلام " و " نيل الأوطار " و " ‏العواصم والقواصم " وغيرها من المصنفات المتقنة النافعة التي تركها لنا هؤلاء ‏العلماء الأجلاء , ومن ينكر فضل المحقق الكبير عبد الرحمن بن يحي المعلمي , ‏والعلامة الفقيه محمد بن إسماعيل العمراني , والعالم الرباني محمد بن سالم ‏البيحاني , والمحدث مقبل بن هادي الوادعي والباحث في إعجاز الكتاب والسنة ‏عبد المجيد الزنداني وطلاب هؤلاء الذين شاع فضلهم في عامة الشعوب ‏الإسلامية شرقا وغربا , وهؤلاء ـ وغيرهم لا يحصيهم إلا الله ـ من آثار العلماء ‏المجددين الذين ورثوا العلم لمن بعدهم حتى انتقل وامتد أثره فرحمهم الله وأجزل ‏لهم المثوبة .‏

ومن أبرز آثارهم على الصحوة المباركة :‏

انتشار منهجهم الذي هو امتداد لمنهج السلف الصالح في أوساط الصحوة بجميع ‏فئاتها وفصائلها وذلك في :‏

‏1-‏الرجوع إلى الكتاب والسنة , وفهم السلف الصالح في جميع الشؤون .‏

‏2-‏نبذ التقليد الأعمى , والاعتماد على الدليل والدوران معه حيث دار .‏

‏3-‏تنقية العقائد مما لحق بها , ومحاربة ما كان منها مبتدعا منحرفا .‏

‏4-‏التوجه إلى علم الحديث رواية ودراية , والدعوة القوية لذلك .‏

‏5-‏تحبيب طلب العلم , وتيسيره , وإزالة التعقيدات التي كانت قد أحاطت به .‏

‏6-‏انتشار كتبهم , واقتناؤها من كافة طلبة العلم والدعاة إلى الله .‏

‏7-‏اعتماد كتبهم مناهج للتدريس في الجامعات والمعاهد والمراكز الإسلامية في ‏جميع أنحاء البلاد الإسلامية .‏

‏8-‏رجوع العلماء والباحثين إلى كتبهم , واعتمادهم عليها , حيث لا تكاد تجد ‏رسالة علمية جادة خالية من عدد من مؤلفاتهم كمصادر أصيلة للباحث .‏

‏9-‏الدراسات الكثيرة التي كتبت عنهم وغطت جوانب كثيرة من جوانب علمهم ‏ومنهجهم . ‏

5- الخاتمة .‏

وفي نهاية هذا البحث نؤكد على أن : التجديد هو إحياء لما اندرس من الشريعة , ‏وليس الإتيان بجديد محدث لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‏الكرام رضي الله عليهم أجمعين .‏

هذا وقد تعلق بحديث التجديد جملة من المسلمات والمعاني الهامة والتي تستحق ‏مزيد العناية والبحث لمن ينشط لها , منها:‏

‏1-‏زمن التجديد و دلالة تحديد هذا الزمن‎ ‎برأس كل مائة سنة , وأنه لاستمرارية ‏عملية‎ ‎التجديد وتقارب زمنه .‏

‏2-يعد التجديد مفهومًا مناقضاً لمفهوم التقليد الذي هو محاكاة‏‎ ‎الآخر مهما كان بعده ‏عن حقائق الشرع وموافقة الأدلة , والتقليد في حقيقته : تغييب للعقل وانفصال بينه ‏وبين الوحي‏‎ ‎‏.‏

‏3-مفهوم التجديد لدى الغرب منفصل تماما عن المفهوم الإسلامي له , وأصل ‏التجديد عندهم ناتج عن صراع بين كهان الكنيسة من جانب‎ ‎ورجال العلوم البحتة ‏والعقليات من جانب آخر، مما دفعهم لرفض كل سلطات الكنيسة تحت مسمى ‏التجديد .‏

‏4-مفهوم التجديد الإسلامي : يعني العودة إلى الأصول الشرعية‏‎ ‎وإحياءها في حياة ‏المسلمين وتقويم اعوجاج وانحراف الناس عنها .‏

‏5-من مفهوم التجديد أيضا : مواجهة النوازل والوقائع المتجددة ، من خلال فهمها ‏وإعادة قراءتها على ضوء النصوص الشرعية إن وجدت , وإلا فباجتهاد منضبط ‏بأصول منضبطة نابعة من هذه النصوص لا خارجة عنها .‏

‏6-المجدِّد : هو القائم بعملية التجديد فردا كان أو جماعة , واجتهاد العلماء في ‏توصيفه وتحديده .‏

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم