البحوث

المولد النبوي أصله وحقيقته

2011-02-14



المولد النبوي أصله وحقيقته

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ،سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،أما بعد:

فإن من أعظم وظائف طالب العلم : الحفاظ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نقية صافية، والعمل على إزالة ما لحق بها من الشوائب والمحدثات ، سواء في جانب العقيدة أو العبادة.

وقد عد سلفنا الصالح هذا العمل من الجهاد في سبيل الله، لذا أحببت أن أشارك في هذا الخير، بجمع هذه الوريقات الصغيرة في موضوع منتشر ذائع، يمارسه أمم من المسلمين على نية التقرب إلى الله تعالى،وبدافع المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم،ظانين أن ذلك من الوسائل المؤدية لذلك الغرض، وأعني به الاحتفال بالمولد النبوي.

 

وحيث أن ما يقرب إلى الله تعالى يجب أن يقوم على أصلين عظيمين هما: الإخلاص والمتابعة،وإن ما فقد هذين الأصلين،فإنه مردود على صاحبه بنص القرآن والسنة واتفاق المعتبرين من العلماء، فإنني أردت أن أنصح لإخواني المسلمين ببيان أن أصل المتابعة مفقود في هذا العمل،إذ لم يثبت الاحتفال بالمولد النبوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن أئمة المسلمين خلال القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، بل لم يبتدئه أحد من أئمة المسلمين السائرين على منهج أهل السنة والجماعة،وإنما اخترعه الفاطميون ( الباطنيون) الملاحدة إبان قيام دولتهم بمصر،كما ذكر ذلك ثقات المؤرخين.

وقد تضمن هذا البحث بيان نشأة المولد، وبيان من أنشأه، والهدف من إنشائه،ثم نقد أحد أشهر كتب الموالد التي يتلوها الناس في احتفالاتهم، ليعرف كل مسلم حقيقة هذه الاحتفالات، وأنها من اختراع المبغضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا من عمل محبيه.

وقدمت لذلك وسميته ( المولد النبوي .. أصله وحقيقته) أسأل الله تعالى أن يتقبله،وينفع به عباده المؤمنين.

كتبه:

أحمد بن حسن المعلم

16محرم 1427هـ

(1) حقيقة الإتباع :-

[ الإتباع هو الإقتداء والتأسي بالنبي e في الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك بعمل مثل عمله على الوجه الذي عمله e ، من إيجاب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو حظر ، مع توفر الإرادة في ذلك ].

(2) والإتباع أحد الأصلين الذَيْن لا يقوم دين العبد إلا عليهما وهما:

الأصلتعالى:: الإخلاص :- الذي هو مقتضى شهادة لا إله إلا الله ، وشرطها الذي لا تقبل إلا به ؛ حيث يقول الله تعالى :] فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً [ ويقول سبحانه: ] وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء[ ، ويقول محذراً من نقض الإخلاص : ] ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ ، ويقول الرسول e في الحديث القدسي: } قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه { .(رواه مسلم)

والأصل الثاني : الإتباع : الذي هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله والطريق الموصل إلى محبة الله ، قال تعالى :] قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [ قال الإمام ابن كثير –رحمه الله - : (هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين المحمدي في جميع أقوله وأفعاله). وقال تعالى : ] يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [ الآية ، قال ابن عباس –رضي الله عنهما- في تفسيرها :( فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم ،وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة ). وقال تعالى محذراً من مخالفة هذا الإتباع :] فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ قال ابن كثير –رحمه الله- : ( ] فليحذر الذين يخالفون عن أمره [ أي عن أمر رسول الله e وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان) وفي البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي e قال: } من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ٌ{ وفي رواية لمسلم : } من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد{ ، قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرح ا الأربعين النووية :( فأما العبادات فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على عامله وعامله يدخل تحت قوله تعالى :] أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه ، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاءً وتصدية ، وهذا كمن تقرَّب إلى الله تعالى بسماع الملاهي والرقص أو يكشف الرأس في غير الإحرام وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية ) .

وفي سنن أبي داود الترمذي وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية أن رسول الله e قال :} أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجلَّ والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة { . وقال حذيفة t : ( كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله e فلا تتعبد بها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً ؛ فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من قبلكم ) رواه اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة وأصله في البخاري .

(3) واتباع رسول الله e مرتبط بمحبة الله تعالى ومحبة النبي e ، إذ من المستحيل أن يتبع إنسان إنساناً بدون إكراه ولا ابتغاء مصلحة خاصة ؛ أن يتبعه في جميع أقواله وأفعاله وأوامره و نواهيه وهو لا يحبه .

كما أنه من المستحيل أن يحب إنسان إنساناً محبة كاملة ثم لا يتابعه ولا يطيعه بل يخالفه ويتمرد عليه ، وقد سبقت الآية الكريمة التي يسميانتهى.العلماء آية الامتحان والتي قال الله فيها :] قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [ ، قال ابن القيم –رحمه الله- على هذه الآية : ( فعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله ، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم ، فيستحيل إذن ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله e . ودل على أن متابعة الرسول e هي حب الله ورسوله وطاعة أمره ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما) انتهى .

(4) وعلى ذلك فإن الذين صدقت براهين ُمحبتهم لرسول الله e صدقاً لا يخالج قلب مؤمن شك فيه هم صحابته الذين قرن الله ذكره بذكرهم وثنائه عليه بثنائه عليهم فقال سبحانه :] محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيناهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً [ ، وقال سبحانه : ] لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وألئك هم المفلحون _ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم [ ،وقال : ] لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم [ .

وقد برهنوا فعلاً على محبتهم له وهذه نبذة يسيرة من أخبارهم في ذلك :

1) ففي البخاري في قصة الحديبية عن عروة بن مسعود الثقفي أنه بعدما وفد على رسول الله e ورآه ورأى حال الصحابة معه ثم رجع إلى قريش قال : ( أ ي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً ، والله إن تنخَّم إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدُّون النظر إليه تعظيماً له ) ، ولم تكن محبتهُم له مجرد تمسح به وتلقف لماء وضوئه وخفض الصوت عنده ولكنها ظهرت بشكل أقوى وأجل في ميدان الوغى حيث قدموا النفوس وسكبوا الدماء بين يديه e فاسمع إلى قصتهم معه يوم بدر وما قاله المتكلمون أمامه ؛ فهذا سعد بن معاذt يقول يا رسول الله ‍: ( لعلك تخشى أن تكونَ الأنصارُ ترى حقاً عليها ألا ينصروك إلا في ديارهها، وإني أقولُ عن الأنصار وأُجيبُ عنهم : فاظْعَنْ حيث شئت َ، وصِلْ حبلَ من شئتَ ، واقطع حبلَ من شئتَ ، وخُذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئتَ ، وما أخذت منّا أحب إلينا مما تركت، وما أمرتَ فيه من أمرٍ فأمرُنا تَبَـعٌ لأمرك ، فوالله لئن سرتَ حتى تبلغ البَرْك من غمدان ، لنسيرنَّ معك ،ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خُضناه معك ). وقال له المقدادt : ( لا نقول لك كما قال قومُ موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكنا نقاتل عن يمينك ، وعن شمالك ، ومن بين يديك، ومن خلفك ).وفي أُحد تستمع لقصة أنس بن مالك tحيث قال :( لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة ، قالوا : قتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة فخرجت امرأة من الأنصار محتزمة فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم استقبلت به أولاً فلما مرَّت على أحدهم قالت من هذا قالوا : أبوك ، أخوك ، زوجك ، ابنك ، تقول : ما فعل رسول الله e يقولون : أمامك حتى دفعت إلى رسول الله e فأخذت بناحية ثوبه ، ثم قالت : بأبي أنت وأمي يارسول الله لا أبالي إذا سلمت من عطب ) وفي رواية قالت :( كل مصيبة بعدك جلل ). وقبلها قصة أنس بن النضر t التي يحكيها ابنُ أخيه أنس بن مالك وهي : ( أن عمه غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي e ، لئن أشهدني الله مع النبي e ليـــــَرينَّ اللهُ ما أفعلُ فلقي يوم أُحد الناس فقال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني المسلمين – وأبرأ إليك مما جاء به المشركون . فتقدم بسيفه ، فلقيدون أُحدمعاذ فقال : أين ياسعدُ؟ إني أجد ريح الجنة دون أُحد. فمضى فقُتل، فما عُرف حتى عرفته أُخته بشامةٍ – أو ببنانه – وبه بضع وثمانون: من طعنة ٍ، وضربةٍ ، ورَمية بسهم } رواه البخاري ومسلم.

وأروع من ذلك وأعجب قصة زيد بن الدثنة t حينما كان أسيراً لدى قريش وقد أرادوا أن يقتلوه فقال له أبو سفيان : ( أنشدك بالله يا زيد : أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك ؟ ) قال : ( والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ) ، فقال أبو سفيان :( ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً ) .

الجواب:ذج من محبتهم له ودفاعهم عنه وعن دينه وهي قليلة جداً إذ لو أردت الاستقصاء لجاء في مؤلف مستقل ومع هذه المحبة العظيمة والإجلال والتعظيم له وهم يعرفون يوم مولده وأياماً كثيرة عظيمة في حياته ؛ فهل احتفلوا بيوم واحدٍ من تلك الأيام ؟ الجواب : لا . لأنهم لهديه متِّبعون وبمنهجه متقـــيِّـــدون لا يزيدون عما تركهم عليه شيئاً ولا ينقصون .لا يقول قائل : إنهم كانوا منشغلين بالجهاد والفتح فلقد كانوا كذلك غير أن انشغالهم لم يحملهم على ترك سنة واحدة من سننه ولا على التخلي عن أمر واحد مما يحبه عليه الصلاة والسلام ، فكيف لم ينشغلوا إلا عن الاحتفال بمولده مع علمهم بمشروعيته ومحبته له ؟‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ إن هذا لمن أمحل المحال بل إن هذا من التخرص في دين الله والتقول عليهم بما لا يليق ؛ بل إنه انتقاص من قدرهم واتهام لهم بالتقصير في تنفيذ رغبة النبي e .

أو ليس قد نقلوا سنة صيام الاثنين لأنه اليوم الذي وُلدَ فيه e وعملوا به ؛ فلماذا لم يشغلهم الجهاد والفتح عنه ؟‍‍! أم أن من يُشيعُ تلك الشبه ويتذرّعُ بها إنما يريد فقط أن يلبِّس على عوام المسلمين ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌‌‌‍‍‍‍‍! الحقيقة المُرة التي لا يطيقها أهل البدعة ولا يطيقون دفعها بل تبقى غصة في حلوقهم أنه قد انقضى عصر الصحابة جميعاً ولم يعرف أنهم احتفلوا لا بمولد ولا بسواه وهم الذين أُمرنا أن نرجع عند الخلاف إلى هديهم ونزن الأعمال صحة وفساداً وسنةً وابتداعاً بما كانوا عليه ، كما أمرنا الرسول e بذلك فقال : } وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة { وقد مرَّ معنا قولُ حذيفة e : ( كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله e فلا تتعبدوا بها فإن ا لأول لم يدع للآخر مقالاً ).

5) وأعظم الناس حباً لرسول الله e واتباعاً له ولأصحابه هم التابعون لهم بإحسان الذين أثنى الله عليهم ومدحهم في كتابه العزيز فقال : ] والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه و أعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم [ وقال سبحانه:] والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [ وأثنى عليهم النبي e بالخيرية بعد الصحابة فقال :} خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم تسبق شهادةُ أحدِهم يمينه ،ويمينه شهادته { رواه البخاري ومسلم . فأصحاب الثلاثة القرون الأولى هم أصدق الناس محبة واتباعاً للرسول e وفي أيامهم استقر الأمر ، وجُمع العلم، وثبتت قواعده ،ورسخت أصوله ، ولم يبقَ شئ من الدين غائباً لم يكتشف أو مهملاً لم يعمل به .

وقد برزت محبة النبي e على وجوه وأعمال وأقوال أولئك الناس فلا تقصير في محبته ولا تفريط في اتباعه وإليك نماذج مما يثبت ما أقول :

النموذج الأول :

جهادهم في سبيل الله لنشر دين الله سبحانه وتعالى والتضحية في سبيله ، فإن الإسلام وصل أطراف الصين شرقاً وقلب شبه القارة الهندية جنوباً شرقياً وحدود فرنسا غرباً كل ذلك في زمن التابعين .

النموذج الثاني :

حفظهم لسنته e ،وتدوينها ،وتبويبها والحفاظ عليها نصاً ومعنىً ، والرحلة في سبيل ذلك ، والذب عنها بما لا يوجد عند أمة من الأمم .

النموذج الثالث :

الدفاع عن منهاج النبي e في العقيدة والعبادة وغير ذلك ، فقد نذروا أنفسهم لذلك وردوا على كل الطوائف المنحرفة بكل قوة وصلابة واحتساب وملأت مصنفاتُهم في ذلك الدنيا مما يدل على غَيرة شديدة ومحبة أكيدة له e .

النموذج الرابع :

توقيرهم لحديثه والتأدب عند التحديث به ؛ من خفض الصوت ، وحسن السمت ، والبروز على أكمل الوجوه لذلك ، قال ضرار بن مرة : ( كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله e وهم على غير وضوء ) وقال أبو سلمة الخزاعي : ( كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج يحدث توضأ وضوئه للصلاة ولبس أحسن ثيابه ولبس قلنسوة ومشط لحيته فقيل له في ذلك فقال :أُوقِّر به حديث رسول الله e ) وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك فإذا جاءالحديث خشع .

وفي جامع الخطيب البغدادي –رحمه الله- عن أحمد بن سليمان بن القطان أنه قال :( كان عبدالرحمن بن مهدي لا يــُتــحدث في مجلسه ، ولا يُبرى قلم ، ولا يتبسم أحد ، فإن تُحدِّثَ أو بُريَ قلم صاح ولبس نعليه ودخل وكذا كان يفعل ابن نمير وكان من أشد الناس في هذا وكان وكيع أيضاً في مجلسه كأنهم في صلاة ، فإن أنكر من أمرهم شيئاً انتعل ودخل ) . وقال حماد بن سلمة-رحمه الله- : ( كنا عند أيوب نسمعُ لغطاً فقال : ما هذا اللغط أما بلغهم أن رفع الصوت عند الحديث عن رسول الله e كرفع الصوت عليه في حياته ) .

النموذج الخامس :

صرامتهم في العمل بالسنة وعدم المخالفة لها . قال الحميدي –رحمه الله- : ( كنا عند الشافعي فأتاه رجل فسأله مسألة ، فقال: قضى فيها رسول الله e كذا وكذا ، فقال الرجل للشافعي : ما تقول فيها أنت ، قال : سبحان الله ‍! تُراني في كنيسة تُراني في بيعة ‍! ترى على وسطي زناراً ، أقول لك: قضى فيها رسول الله e وأنت تقول: ما تقول أنت ) .

وقد شهد الأئمة العدول أن القرون الثلاثة المفضلة بريئة من هذا الاحتفال ؛ لم يفعلوه أو يستحسنوه ، أو يخطر على بالهم . قال الإمام الفاكهاني –رحمه الله – (في رسالته المورد في عمل المولد) :( لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب الله ولا سنة ، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين ، بل هو بدعة أحدثها البطالون ، وهو ليس بواجب إجماعاً ،ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه ، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون فيما علمت ،وهذا هو جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن سُئلتُ عنه ) . وقال ابن الحاج في (المدخل) : ( هو بدعة في الدين ، وزيادة في الدين ليس من عمل السلف الماضين ، واتباع السلف أولى بل أوجب لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول e ونحن لهم تَبــــَعٌ فيسعنا ما وسعهم ). وقال السخاوي قي فتاواه كما في( السيرة الحلبية ) :( عمل المولد لم يُنقل عن أحد من السلف في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعدُ ) وكفى بهذه الشهادات تنزيهاً للسلف الصالح عن هذه البدعة .

فإن قال قائل : لقد استحسن هذا العمل َجماعة من العلماء مثل أبي شامة والسيوطي وابن دحية وغيرهم . فالجواب : أن هؤلاء جميعاً من المتأخرين ومن الذين نشأوا بعد أن أسس هذه البدعة الفاطميون وأذاعها عنهم الصوفية كما سيأتي ، وقد قابل استحسانهم استنكار غيرهم من معاصريهم وممن جاء بعدهم ، فأصبح الاحتكام واجب إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة وعمل السلف الصالح ولم نجد في شئ من ذلك ما يدل على ما استحسنه المستحسنون فكان السلف أولى بالإتباع كما قال ابن الحاج .

واستحسانه إنما هو لأصل عمل المولد وأما لو رأوا ما فيه اليوم من الكذب عل رسول الله e ومنقلة الأدب معه ومن الرقص والغناء وانتهاك حرمة المساجد ،لذلك وغيرها من المنكرات فلا يمكن أن يستحسنه .

الجو الذي سادت فيه البدع وانتشرت ومنها بدعة المولد

مضت القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية ، والسنة هي السائدة والقيادة السياسية والعلمية في يد أهل السنة فلم يكن هناك مجال لانتشار البدع وظهورها وفشوها إلى قرب نهاية القرن الثالث ، ثم في آخر القرن الثالث وبداية الرابع تتابعت الفتن وعمَّت البدع وانتقلت السلطة والقيادة من أيدي أهل السنة إلى أيدي الباطنية من الروافض والإسماعيلية والقرامطة الذين لا يحبون الله ولا رسوله ولا أصحاب رسوله ولا الصالحين من أهل السنة والإتباع ، وإنما يتظاهرون بمحبة أهل البيت نفاقاً وزوراً للوصول إلى أهدافهم الخبيثة ومقاصدهم المريبة التي منها هَدم الإسلام ، والقضاء عليه .

فقد كان آل بويه من الرافضة الغلاة الذين كانوا أول من أظهر سب الصحابة علناً بل لعن الشيخين جهاراً في بغداد ، كانوا يحكمون شرق العالم الإسلامي بما في ذلك بغداد وسائر العراق وأطراف الشام .

وكانكان هذاون الباطنيون الذين يُسمَّون زوراً الفاطميون والذين كفَّرهم وبيَّن قبائح اعتقاداتهم وكيدهم للإسلام جماهير علماء الإسلام ، كانوا يحكمون مصر وبعض أطراف الشام والمغرب العربي .

وكان القرامطة الذين اتفق على كفرهم علماء ا لإسلام والذين استباحوا بيت الله الحرام وأخذوا الحجر الأسود من موضعه وقتلوا الحجاج داخل الحرم وقال قائلهم :

فلو كان هذا البيــــت لله ربنا لصبَّ علينا النار من فوقنا صباً

لأنا حججنا حجة جاهلية مــجلــــــــــلة لم تبق شرقاً ولا غرباً

كان هؤلاء يحكمون وسط العالم الإسلامي وبالذات جزيرة العرب. و في تلك الحقبة المظلمة، أطلت البدع بقرونها و ترسّخت جذورها وباضت وفرّخت في أرجاء البلاد الإسلامية ، كما نشأت وظهرت وانتشرت في تلك الفترة حركة أخرى لا تقل خطورة عن تلك الحركات غير أنها لا تعتمد على السلطة الظاهرة السياسية أو العسكرية وإنما تعتمد على السلطة الروحية التي نمتها في أوساط المجتمع وبثتها في رُوعه حتى إنها صارت بذلك حاكمة على أصحاب السلطة الظاهرة أنفسهم فضلاً عن الرعية وعوام الناس وبذلك كانت تتبجح و تصف رموزها بهذا البيت :

ملوكٌ على التحقيقِ ليس لغيرهم من الملكِ إلا إسمُهُ وعقابُهُ

تلك هي الحركة الصوفية الفلسفية المنحرفة وهي في الواقع وجه آخر للباطنية الشيعية ، بل هي هي ، إذ أن معظم أقطابها يزعمون الإنتساب إلى أهل البيت ويزعمون أن أسانيدهم في التصوف تلتقي إلى علي بن أبي طالب t ثم إلى رسول الله e ثم إلى جبريل u ثم إلى رب العالمين تعالى عما يقولون علوَّا كبيراً .

وقد قرَّر عدد من الباحثين المصريين منهم شيخ سابق للجامع الأزهر هو الشيخ مصطفى عبدالرازق ، أن الفاطميين حينما شعروا بانحلال نفوذهم وقرب سقوطهم حرَّكوا جمعاً من خلصاء أصحابهم للتظاهر بالتصوف وبثه في العالم الإسلامي والعربي على وجه خاص وعقدوا لذلك مؤتمراً بمكة على أثره أرسلوا دعاتهم إلى أنحاء البلاد العربية ؛ العراق والشام والمصر واليمن ،وذلك في القرن السادس الهجري أي قبل وفود عبدالله الصالح المغربي مندوب أبي مدين أحد أقطاب الصوفية المغاربة قبل وفوده إلى حضرموت بسنوات مما يجعل هناك احتمالاً كبيراً أن يكون إرساله إلى حضرموت ناتج عن قرارات ذلك المؤتمر والله أعلم .وكان الغرض من ذلك بقاء السلطة والهيمنة في يد الشيعة لا في يد أهل السنة .

الذي أُريد أن أقوله هو : إن بدعة الاحتفال بالمولد نشأت في هذا الجو البدعي الباطني المظلم ، نشأت على يد الفاطميين ثم تلقَّفها الصوفية ونشروها في أرجاء الأرض ، والغريب أن المدافعين عن البدع بشكل عام وعن بدعة المولد بشكل خاص قد أدركوا النسب الخبيث لهذه البدعة وما يعنيه اختصاص الفاطميين باختراع بدعة المولد من قبح لهذه البدعة وبـُعد عن الدين القويم فراحوا ينكرون أن تكون هذه البدعة من اختراع الفاطميين ويردون بالجحود الواضح والمكابرة المفضوحة على من يثبت ذلك ولكن أهل السنة بحمد الله أثبتوا بما لا يدع مجالاً للشك أن الاحتفال ببدعة المولد هو من دسائس الفاطميين وبدعهم التي تليق بحالهم وهذا البرهان :

نقل تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المصري الشافعي المؤرخ المعروف في كتابه ( المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ) المعروف اختصاراً باسم ( الخطط المقريزية [ 2/216] طبعة مكتبة مدبولي بالقاهرة ) تحت عنوان (جلوس الخليفة بالمنظره علو باب الذهب) ؛ نقل عن ابن المأمون في أخبار سنة ست عشرة وخمسمائة كلاماً طويلاً ثم جاء هذا النقل (ص216)قال: ( واستهلّ ريع الأول ونبدأ بما شُرِّف به الشهر المذكور وهو ذكر مولد سيد الأولين والآخرين محمد صلوات الله وسلامه عليه لثلاث عشرة منه وأطلق ما هو برسم الصدقات من مال النجاوى خاصة ستة آلاف درهم ومن الأصناف من دار الفطرة أربعون صينية فطرة ، ومن الخزائن يرسم المتولين والسدنة للمشاهد الشريفة التي بين الجبل والقرافة التي فيها أعضاء آل رسول الله e سكر ولوز وعسل وشيرج لكل مشهد وما يتولى تفرقته ابن سناء الملك ابن ميسر أربعمائة ألف رطل حلاوة وألف رطل خبز ، وكان الأفضل ابن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة النبوي والعلوي والفاطمي والإمام الحاضر وما يهتم به،وقدم العهد به حتى نسى ذكرها فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الأمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه فيها ويحسنون له معارضة الوزير بسببها وإقامة الجواري والرسوم فيها فأجاب إلى ذلك وعمل ماذُكر .

قال المقريزي ( وقال ابن الطوير : ذكر جلوس الخليفة في الموالد الستة في تواريخ مختلفة وما يطلق فيها وهي : مولد الرسول e ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومولد فاطمة عليها السلام ومولد الحسن ومولد الحسين عليهما السلام ومولد الخليفة الحاضر ويكون هذا الجلوس في المنظره التي هي أنزل المناظر و أقرب إلى الأرض قبالة دار فخر الدين جهاركس والفندق المستجد فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول تقدَّم بأن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطاراً من السكر اليابس حلواء يابسة من طرائفها تعبأ في ثلاثمائة صينية من النحاس وهو مولد النبي e فتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم من أرباب الرتب وكل صينية في قواره من أول النهار إلى ظهره فأول أرباب الرسوم قاضي القضاة ثم داعي الدعاة ويدخل في ذلك القرّاء بالحضرة والخطباء والمتصدرون بالجوامع بالقاهرة وقومة المشاهد ) الخ .

وقال تحت عنوان(ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم ) :) وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم هي موسم رأس السنة وموسم أول العام ويوم عاشوراء ومولد النبي e ومولد علي بن أبي طالب e ومولد الحسن ومولد الحسين عليهما السلام ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام ومولد الخليفة الحاضر وليلة أول رجب وليلة نصفه وليلة أو شعبان وليلة الختم وموسم عيد الفطر وموسم عيد النحر وعيد الغدير وكسوة الشتاء وكسوة الصيف . وموسم فتح الخليج ويوم النوروز ويوم الغطَّاس ويوم الميلاد وخميس العدس وأيام الركوبات ) (2/347) .

وقد نقل أبو العباس القلقشندي في صبح الأعشى (498-499) بعد كلام طويل عن جلوسات الخليفة الفاطمي قريباً مما مرَّ عن المقريزي فكان مما قال : ( الجلوس الثالث جلوسه في مولد النبيe ) الخ من (القول الفصل )( ص 67) .

فهل بعد هذه النقول شك في أن الفاطميين هم الذين اخترعوا بدعة الاحتفال بالمولد النبوي. والفاطميون قد حوَّلوا الدين كله إلى بدع تكرِّس عقيدتهم وتشغل الناس عن العمل بسنة المصطفى e أو حتى التأمل فيما هم فيه ، وكل الذي شغلوهم به أو جله لا صلة له بالدين وليس من هدي النبيe وخُذ مثلاً هذه الاحتفالات فمنها ما ينسب إلى الدين والدين منها برئ كالاحتفال بمولد النبي e وموالد علي وفاطمة والحسن والحسين t ورجب وشعبان ورمضان والختم ، ومنها ما يعرف نهي الدين عنه واتفاق كلمة المسلمين على النهي عنه مثل ميلاد المسيح ويوم النوروز وهو من أعياد القبط وعيد الغطاس من مواسم النصارى وخميس العدس من أعياد النصارى ومنها ما هو لتمجيد وتعظيم خليفة العصر كما يزعمون مثل الركوبات وميلاد الخليفة .

هذا هو دين الفاطميين إضافة إلى سوء معتقدهم الذي بيَّنه العلماء – رحمهم الله- .

فهل هؤلاء جديرون بأن يقتدي بهم ؟

وهل بهذا يكون الاحتفال بالمولد دليل محبة المحتفلين وأن من لم يحتفل لا يحب النبيe ؟

بمعنى آخر : هل الباطنيون العبيديون والصوفية المنحرفة ومن تبعهم يحبون النبي e أكثر ؟

أم الصحابة والتابعون وأئمة الدين ومن تبعهم يحبونه أكثر ؟ الإجابة لا تحتاج إلى كبير عناء .

 

تلقُّف الصوفية لذلك عن العبيدين

لقد كانت الصوفية الفلسفية المنحرفة ذات أصل شيعي باطني وقد سبق ذكر ذلك .

كما أنهم اقتبسوا منهم كثيراً من البدع العقائدية والعملية حتى بعض العقائد الكفرية كما يرى ابنُ خلدون حيث جاء في مقدمته (473) : ( ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغَّلُوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه و ملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفُهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة مذهباً لم يــُــعرف لأولهم فأُشرب كلُّ واحدٍ من الفريقين مذهبَ الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين...الخ ) .

إذن ومما أخذوه عنهم هذه البدعة وكان أول ظهورها في مدينة الموصل على يد صوفي معروف هو عمر بن محمد الملا ؛ ذكر ذلك سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان (8/310) وابن كثير في البداية والنهاية (12/263) [ القول الفصل88-89] وقد ذكروا أنه كان من كبار الصوفية له زاوية وأتباع وكان الناس من الأمراء وغيرهم يعتقدون فيه كشأن أقطاب الصوفية .

إذن فليس كما يزعم مروّجوا الموالد أن الذي أحدثها الأمير بهاء الدين كوكبري أمير إربل إذ أن هذا الأمير متأخر عن ابن الملا حيث توفي الملا سنة (570هـ) وتوفي الملك أو الأمير كوكبري سنة (630هـ) ، إذن فهذه البدعة بعيدة النسب عن أهل السنة والإتباع فمنبتها باطني وفروعها صوفية وأما جهلة الأمراء وما يفعلون فليسوا بحجة على أحد وإن أثنى مترجمو كوكبري عليه بالصلاح والشجاعة وكثرة الصدقات كما فعل ابن خلكان وعنه الذهبي في السير وغيرهما إلا أن هناك من أبان عن جانب مظلم ينفر عنه ويشكك في صلاحه ، فهذا ياقوت الحموي يقول عنه في(معجم البلدان [1/138]) :( وطباع هذا الأمير مختلفة متضادة فإنه كثير الظلم عسوف بالرعية راغب في أخذ الأموال من غير وجهها وهو مع ذلك مفضل للفقراء كثير الصدقات على الغرباء يسيِّر الأموال الجمة الوافرة يستفك بها الأسارى من أيدي الكفار وفي ذلك يقول الشاعر :

كساعية للخير من كسب فرجها لكِ الويل لا تزني ولا تتصدقي

ولو فرضنا صلاح الرجل وعدم صحة ما ذكره ياقوت الحموي فإن الأمر حينئذ يكون كما قال الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في ترجمته في كتاب( رجال من التاريخ [ 267-273] طبعة دار المنار بجدة ) : ( وكان يؤخذ عليه أنه كان عل ى طريقة مبتدعة المتصوفة الذين يقيمون حفلات السماع ، ويتواجدون ويرقصون ويأتون أعمالاً ليست من الدين ولا يعرفها السلف ولا أوائل الصوفيين ، وكان مولعاً بها،يزور مدارس الصوفية التي أنشأها لهم فيجمع له المغنون – المنشدون- فيسمع منهم مثل الذي تسميه إذاعة دمشق الأناشيد الدينية والدين برئ منها ، ولم يسمع مثله الرسول e ولا الصحابة ولا التابعون ، ولا عرفوه ، ومن هذه (الأناشيد) ما لا يخلو من كفر صريح وسؤال الرسول ما لا يقدر عليه إلا الله ، ووصفه بما لا يوصف به إلا الله ، ومنها ما هو وقاحة وسوء أ دب وغزل بالرسول ووصف جماله وذكر للهجر والوصال .

والدين ما كان عليه الرسول e وصحبه ومن زعم أن في المحدثات ما هو من الدين ، فقد نسب النقص إلى الشريعة وادّعى بأنه زاد في القربة والطاعة على رسول الله e ، وسيصدم هذا الكلام كثيراً من السامعين ويرون فيه غير ما عرفوا وألفوا ولكنه الحق والحق أحق أن يتبع ).

وقال قبل ذلك (ص169) :(ولولا ما سنَّ من سنن سيئة يوم المولد من اللهو والسماع لشهدت أنه لم يكن له نظير ) .

 

حقـــيقـــــة الـمــــولـــــــــــد

ثبت بقي أنمجال للشك فيه أن المولد نبتة غريبة عن الإسلام ومنهجه المصفَّى وبدعة من البدع الباطنية العبيدية وعنهم مبتدعة الصوفية ولا صلة له بالسلف الصالح المأمور باتباعهم والإقتداء بهم .

لكن بقي أن نعرف حقيقة المولد ما هو ؟ ماذا فيه من تعظيم ٍ لرسول الله e وربط لأمته به وبشمائله الكريمة وسننه العظيمة وأخلاقه السامية الرفيعة ؟ .

لنعلم بعد ذلك أيريد المروّجون للمولد حقاً تذكير الأمة بعظمة نبيها وحثهم على الإقتداء به فيه أم غير ذلك ولنأخذ على ذلك مثلاً مولد الديبعي الذي يعظمه القوم ويرونه أفضل أومن أفضل الموالد حتى كذبوا على رسول الله e ترغيباً للناس في العناية به .

حيث جاء في (تذكير الناس [ص182]) ؛ هذه العبارة :( فقيل لسيدي أحمد بن حسن العطاس ، هل قيل في المولد المنسوب إلى المحدث الديبعي أن النبيe يحضر قراءته من أوله إلى آخره ؟ قال: نعم ، والحبيب صالح بن عبدالله العطاس يقول : يحضر النبي e في كل مولد عند المقام فيه إلا مولد الديبعي فإنه يحضره كله }؛ إذن فما هذا ا لمولد العظيم الذي بلغ من الاهتمام به أن النبي e يحضره كله على حد زعمهم ؟ .

الخ.ب : إن هذا المولد يحتوي على طوام وعظائم تبعد الناس عن نهج النبيe لا تقربهم إليه ومنها :

إن أول ما يطالعك فيه بعد الخطبة الركيكة المسجوعة ، الكذب على الله وعلى رسوله بزعم أن أول ما خلق الله نور محمدٍ e وأنه به نال آدم أعلى المراتب ، ونجا نوح من الغرق ، وهلك من خالفه من الأهل والأقارب وبه أعطى إبراهيم حجته على عبَّاد الأصنام والكواكب ..الخ . وفي آخره وصف غزلي للرسول e يقول فيه :{ فجرى الجبينُ ليلى الذوائب ألفى الأنف ميمي الفم توني الحواجب ) كأنما يصف غادة حسناء .

 

وهذا الكلام مأخوذ من حديث عن جابر عند عبدالرزاق ، كذا يقولون وهذا الحديث نقل شارح المواهب اللدنية وأقره وأقره قبله ابن كثير في البداية والنهاية عن شيخ الإسلام ابن تيميه أنه قال : ( كل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بالحديث والأنبياء كلهم لم يـُخــلقوا من النبيe بل خلق كل واحد من أبويه } . وفي الحاوي للفتاوى للسيوطي (1/323) ما لفظه : (الحديث المذكور في السؤال ليس له إسناد يعتمد عليه ) ( هذا مع المخالفة لما هو معلوم قطعي من حديث النبي e الصحيح ) وعدَّه الغماري في ( المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير ) (موضوعاً)أي مكذوباً . (القول الفصل [227]) .ثم ثنى بحديث آخر ؛عن ابن عباس –رضي الله عنهما – أن النبيe:{ ذكر أن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله وأن ذلك النور وُضع في طينة آدم وأُهبط معه إلى الأرض ،وكان في السفينة مع نوح ، ومع إبراهيم في النار ، وما يزال يتنقل من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية ..الخ ( المولدص16) . وهذا الحديث قال عنه ابن الجوزي (1/28) :( موضوع قد وضعه بعض الزهاد) أي أنه مكذوب على الرسول e .

ثم ثلَّث بإسرائيلية أي خبراً من أخبارالحديث ماي إسرائيل أوله عن كعب الأحبار قال :( علَّمني أبي التوراة إلا سفراً واحداً كان يختمه ويدخله الصندوق وهو في وصف النبي e وفي آخره قسَّم الأمة إلى ثلاثة أقسام : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يأتون بذنوبهم وخطاياهم فيغر لهم ، وثلث يأتون بذنوب وخطايا عظام فيقول الله تعالى للملائكة : اذهبوا فزنوهم ، فيقولون : يا ربنا وجدناهم أسرفوا على أنفسهم ووجدنا أعمالهم من الذنوب كأمثال الجبال ، غير أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله e ، فيقول الحق : وعزتي وجلالي ما جعلت من أخلص الشهادة كمن كذب أدخلوهم الجنة برحمتي )( المولدص18).

وعلى هذه القصة ملاحظات :

الأولى: أنه سماها حديثاً والمعروف أن الحديث ما جاء عن النبي e وهذه من التوراة ففي هذا مغالطة وكذب على الرسول e .

الثانية:أن عطاء بن يسار الذي نقلها عن كعب الأحبار، لم يسمع من كعب وهذا ضعف للقصة من أساسها أي أنه لم يثبت أن كعباً حدَّث بها.

الثالثة : أن تقسيم الأمة بهذا الشكل مخالف لما تواترت به الأحاديث من أن من أمة محمد من يدخل النار ممن يرتد عن الإسلام ، ومنهم من يبقى على الإسلام ويستحق دخول النار فيشفع فيه النبي e والشافعون فينجو ،ومنهم من يدخلها فعلاً ثم يخرج منها بعد ذلك، كل ذلك مما يدل على كذب هذه القصة .بل إنها وهي تُقرأ على العوام خطيرة أن تجرئهم على المعاصي والفسوق ، ما دام أن أهل المعاصي والفسوق يغفر لهم و لا يعذبون بوم القيامة .

فهل يليق أن نلقن العوام مثل هذا الكلام ونكرره عليهم في مثل هذه المجامع ؟ !

كما أن هناك قصص وأحاديث أخرى لا تصح ، لا أضيع الوقت بتتبعها ، ومن أراد معرفة حالها فليرجع إلى كتاب ( القول الفصل في الاحتفال بمولد سيد الرسل ) لإسماعيل الأنصاري –رحمه الله-فقد بالغ في تتبعها ونقل حكم العلماء عليها و بيان ضعفها ووضع بعضها .

ثالثاً : إن مخرفي الصوفية لم يقتصروا على ما احتوى عليه المولد وإنما ضمَّوا إليه قصائد أخرى كثيرة أكثرها ركيكة الألفاظ رديئة المعنى اشتملت على :

1) توسلات بدعية في كثير منها .

2) استغاثات بالنبي e مثل ما في قصيدة علي بن حسن العطاس والتي مطلعها :

يا رسول لله يا عمدتنا ياإمام الأنبياء الأمنا

وفيه يقول :

يا رسول الله ضاقت حيلي من كروبي وجسيــــــمي وهنا

يارسول الله عمّ الخطب من كل وجهه ظاهــــراً أو بــــــــطـــنا

فتداركني ونفِّس كربتي وافتقد حالي افـــــتقاداً حســـــــناً

وكذلك استغاثات بآل با علوي مثل القصيدة التي من (ص 86،87) وفيها يقول :

يـا فــــــقيـه يا مـقــــــــدّم يا محـــــمـــد بن علـــــي

يـا وجيــــــه يا مـــكــــرَّم عـنك مـــولاك العــــلي

أنت وأولادك وصحبك عندكـــــم كم مـــن ولي

تطلب السقاف غـــــارة ذاك دي بحــــــره ملي

وابنه المحضــــار يــحضر والمهـدّر بــــــــو عـــلي

وان ذكرت العيــــدروس كل كربــــــــة تنجـــلي

غــــارة يا عيــــــــدروس في عجـــــــــل لا تمهلي

يا كبـــــــير الصُوفـــــيَــــة عندك الـــــمرعى فلـي

وابـن سالم والحـــســــــين ذو المـــــــقام المعــــتلي

يا آل باعلوي كـــلـــــكـم ساعدوني يا هـــــــلي

 

..........إلى آخرها

رابعاً : سوء أدب مع النبي e ، حيث أورد في (ص41) قصيدة قال في الهامش : {ويستحسن مع القيام في المولد الشريف بتشخيص روح المصطفى e عند قراءة هذه القصيدة } . قلت: أي من أجل أن ينزل عليه الأوصاف التي اشتملت عليها ، وهذه هي القصيدة :

زارني بعد الجفا ظبي النجـود عنبري العـرف وردي الخدود

وسقاني برحيـــــــق بالبــديد وشـــــفى بالملتقى قلبي العمـــيد

قلت أهلاً يا غزال الرقمتـــين أنت قرة خاطري أيضــاً عيني

لا تعدي يا سويجي المـــقلــتين هكذا ترعى ذمامي وعهـودي

أقبلت لي حين أقبلتَ البشائر بالأماني والمُنى يا ظبي عــامـــــر

كم وكم لي من مرام ٍ ومرامِــــر فيـك يادُ رِّي المباسم والعُقــود

يا قضيباً يتمــايـــل في كثيــب عندما هبَّت لــــــه ريـــحُ الجنوب

عُد إلينا لا تخف قول الرقيب يا مسرَّاتي إذا ما عاد عُـــــودي

يا رعى الله ليالاً بالمـــــــعاهد نلتُ فيها ما أُرجّيه وزائــــــــــــد

هل ترى عيشاًتقضَّى ثم عائد إن رإلا بالبكا ياعـــين جـــُودي

خامساً: الله آمــــالٌ طويلـــــــهْ وظنونٌ حــــسنهْ فيـــه جمــــــيلهْ

ليس لي في نيل ما أرجو وسيلهْ غيرُ طه المصطفى زين الوجـــــود

فقل لي بربك هل هذا الوصف يليق بأدنى الرجال فضلاً عن سيد الأنبياء والمرسلين وبطل الأبطال أم أنه وصف ربات الحجال؟

خامساً : سوء أدب مع المسجد :

فالمسجد قد قرَّر العلماء أن مجرد رفع الصوت فيه مكروه على أقل الأحوال ،فكيف برفعه مع الطبول والشبابات وبكلام يثير الشهوات ويحرِّك الغرائز مثل تلك القصيدة التي مطلعها:

على العقيق اجتمعنا نــحنا وســــود العيون

ما ظن مجـــنون ليـــلى قــد جن مثل جنوني

فيا عيوني عــــــيوني ويا جـــــفوني جفوني

ويا قليـــــبي تصبَّر على الذي فارقــوني

والتي أصبح يغنيها أشهر المطربين ، فهناك مطرب من مشاهير مطربي الحجاز غناها قديماً، وهنا مطرب من مشاهير مطربي هذه البلاد يغنيها الآن ، أو ليس هذا امتهان للمسجد وعكس لمزاعم القوم في أنهم يريدون بالموالد إصلاح الناس .

سادساً : احتوى ذلك المجموع على قصيدتين من شطح الصوفية فيهما من التبجح ما لا يجوز ن بل فيهما نسبة أوصاف إلى قائِلَي تلك القصيدتين لا تليق إلا بالله U فظاهرهما الكفر ولكن قد يقال أن لهما تأويلاً ونحن نقول : إن كان الأمر على ظاهره فهو كفر ن فكيف يردد على مسامع الناس وفي هذا الحفل الذي ترونه من أفضل المجامع وفي بيوت الله U ؟ أو ليس من أقرَّ الكافر على كفره كافر مثله ؟ .

وخصوصاً في مثل هذا الحال حيث ينقل ذلك الكلام على وجه الاستحسان له . وإن كان الأمر كما تقولون من أن المقصود شئ آخر وأن للشاعر ين تأويل؟ : أو ليس حسبنا أن نعذرهما ونسترهما ونخفي ما لا يليق نسبته إليهما إلا على سبيل التأويل.

لا شك أن إنشاد مثل هاتين القصيدتين إنما هو تعميق لعقيدة الصوفية في الأقطاب وتصرفهم في الكون ؛تلك العقيدة التي يقول عنها عبدالقاهر البغدادي(في كتابه الفرق بين الفِرَق[251]) :( وأما المفوضة من الرافضة فقوم زعموا أن الله تعالى خلق محمداً ثم فّوض إليه خلق العالم وتدبيره فهو الذي خلق العالم دون الله تعالى ثم فوض محمدٌ تدبير العالم إلى علي بن أبي طالب فهو المدبِّر الثاني .

وهذه الفرقة شرٌّ من المجوس الذين زعموا أن الإله خلق الشيطان ثم إن الشيطان خلق الشرور ، وشر من النصارى الذين سموا عيسى u مدبراً ثانياً ، فمن عدَّ مفوضة الرافضة من فرق الإسلام فهو بمنزلة من عدَّ المجوس من فرق الإسلام).

وأنا لا أقول:إن هؤلاء شرٌّ من المجوس كما قال البغدادي، إنما غرضي أن هذه العقيدة؛ عقيدة التصرف في الكون خطيرة إلى درجة أن من العلماء من عدَّ معتقدها شراً من المجوس.

وتلك القصيدتان إحداهما ينسبونها للشيخ عبدالقادر الجيلاني ولأظنها تثبت عنه (90) مطلعها :

كل قطبٍ يطوفُ بالبيت سبــعاً وأنا البيتُ طــــــائـف بخيامـــــي

كل قطــب وكل فــــــــــردٍ وشيخٍ تحت حكمي يصغو لطيب كلامي

يا فقيري إن كنت معنــــاك معـــنا باتصـــــــــالي ورِفعـــتي ومــــقامي

إن علــم العــــلوم والدرس شُغلي أنا شيـــخُ القُرَّاء وكــــل إمامــــــي

إن سِرّ الأَ ســـرارِ من سر سري كعبتي راحتي وبسطي مُدامــــــي

وفقــيري إذا دعــــــاني بشَــــرقٍ أو بغربٍ أو نــــــازحٍ بحـــــر طامــــي

قالـــــت الأوليـــــاءُ جميعٌ بِعـــــزمٍ أنـــــــــت قطبٌ على جميــــــع الأنامِ

قلــــــــتُ واسمعوا نـــــظمَ قــــولي إنما القطبُ خـــادمــــي وغُلامـــي

أنا في سجدتي أرى العرش حقـاً وجميعَ الأمـــــلاكِ فيـــــــه قيامــــــي

سائرُ الدنيا كلُّها تحت حكمـــي و هـي في قــــبضــــتي كفرْخِ الحمـــــام

أنا عبدٌ لقـــــــادرٍ طـــــاب إسمي جَــــــــدِّيَ المصطفى شفيـــــعُ الأنامِ

صلواتي عليه طــُـــــولَ الـــــدوامِ با لعـــــــشايا وبالبُكــــرِ والظـــــلامِ

والأخرى للشيخ أبي بكر بن سالم العلوي صاحب عينات، مطلعها(ص91):

صَفـــــــت لي حُمـــيَّا خَلِّي و اُسقيتُ من صـــافيـــها

وفيها : أنا أعزِلُ أنا إلـــــــــي وَلّـــــي وأنا شيخهـــــــــا قاضيها

أنا حتفٌ لأهل العـــــــذلِ ونارُ الجحيمِ أُطفيــــــــهــا

ومنها: وعـــــــيــــنُ الحقيقةِ عيــــني وأشرُّ بُ من ساقــــــــــيها

زفيها: أنا عــــرشـُـــها والكرســــي وأنا للســـــــــماء بانـــــــيها

وهي طويلة من هذا النمط .

ولا شك إن إنشاد هذا الهوس على مسامع عوام المسلمين في بيوت الله هو عين الدعوة إلى الضلال والانحلال من عُرى العقيدة الوثيقة .

سابعاً: القيام وما يعتقدون فيه :

يعتقد أهل الموالد أن النبي e يحضر احتفالا تهم ولذا تراهم يقومون عند تلك اللحظة يعتقدون حضوره فيها ويتغنون بأبيات ت تناسب المقام ، مع استحضار أو تشخيص روح النبيe أي يتصورونه حاضراً بينهم ؛ فحيناً يتغنون بتلك القصيدة الغزلية الهابطة التي تسئ إلى النبي e (41) والتي مطلعها:

زارني بعد الجفا ظــــــبي النجــــــودِ عنبريُّ العَــــــرفِ ورديُّ الخدودِ

وقد سبقت ا لإشارة إليها .

وحيناً :

صلى الله على محـــــــــمـد صلى الله عليـه وسلـَّم

يا نبي ســـــــــلام عليـــــك يا رســـول سلام عليك

يا حبيـب سلام عليـــــــك صلــــــــوات الله عليـــه

أشرق الكـــــون ابتهـــــاجاً بوجود المصطفى أحمـد

.....الخ

وحيناً :

مرحباً يا نون عـــــينــــــــي مـــــــرحباً

مرحباً جدّ الـــــــحســـــين مرحبـــــاً ً

وحيناً :

مرحباً بالنبي والأنبياء والصحابه يوم قمنا عسى دعوة من الله مُجابه

وقد صرّحوا بحضوره عند الموالد؛ وسبقت عبارة أحمد بن حسن العطاس وأن النبيe يحضر جميع الموالد عند القيام وأنه يحضر مولد الديبعي من أوله إلى آخره . وفي( كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية )نقلاً عن علي بن علي الحبشي الذي كان يسكن المدينة النبوية قال:( رأيت الحبابة فاطمة تقول :يا علي بغيت النبي ، قلت:نعم ، قالت: اخرج إلى حضرموت فإنه في سيئون عند علي الحبشي ،فقلت :لها :أنا عنده وتقولين اخرج إلى حضرموت فهو هناك . فقالت : وإن كنت عنده فهو عند علي الحبشي في المولد).

ولذلك فهم يعظمون هذا القيام تعظيماً زائداً ويجعلونه شعارأهل السنة كما قال محمد بن سالم بن حفيظ في رسالته ( قرة العين في الرد على أسئلة وادي العين ): (وبالجملة فالقيام عند ذكر مولده e صار شعار أهل السنة والجماعة وتركه من علامات الابتداع فلا نبغي تركه ولا المنع منه بل ربما استلزم ذلك الاستخفاف بالنبي e ، ومن هنا أفتى المولى أبو السعود ألعماري بخشية الكفر على من يتركه حين يقوم الناس لإشعاره بذلك) .

هذا هو اعتقادهم وهذا عملهم وإليك الرد على ما اشتمل عليه :

أولاً : إن دعوى حضور النبي e دعوى باطلة ردها المحققون من علماء المسلمين ، وقد ورد سؤال إلى الشيخ العلامة محمد رشيد رضا-رحمه الله- من الحضارم بجاوه عن صحة ما يقوله البعض أن روحانية النبي e تحضر قراءة مولد الديبع من أولها إلى آخرها وتحضر في غيرها من قصص المولد عند القيام فقط.

فكان الجواب (أما قول قرّاء هذه القصة من المحتالين على الرزق بدعوى الولاية إن روحانية المصطفى تحضر مجالسهم التي يكذبون فيها عليه فمثله كثير من أولئك الدجالين و لا علاج لهذا الجهل إلا كثرة العلماء بالسنة والدعاة إليها بين المسلمين وذلك بساط قد طوي ، وإن كثيراً من المسلمين ليعادوننا ولا ذنب لنا عندهم إلا الانتصار للسنة السنية والدعوة إلى الله ورسوله بالحق لا بالأهواء) (القول الفصل 113) .

ثانياً:كان يزعمون أن الروح هي التي تحضر وإما إن كانوا يقصدون أن النبيe يحظر بروحه وجده أشد نكارة وسخافة وقد صرًّح بردّه جماعة كبيرة من أكابر العلماء منهم (القاضي أبوبكر بن العربي، وأبو العباس أحمد بن عمر القرطبي شارح مسلم، وشيخ الإسلام ابن تيميه ، والحافظ ابن حجر العسقلاني ، والحافظ السخاوي ،وملا علي القارئ ومحمد رشيد رضا )، كل هؤلاء صرّحوا بمنع و قوع ذلك.

ثانياً :القيام من حيث هو :

كان هدي النبي e المنع من القيام للناس تعظيماً وكذلك هدي أصحابه :فعن أنس بن مالك t قال:} لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله e وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك { رواه البخاري في الأدب المفرد و الترمذي و قال حديث حسن صحيح .

ولهذا أفتى ابن حجر الهيتمي المكي عمدة أهل حضرموت في الفقه بقوله:( ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده e وضع أمة له من القيام وهو أيضاً بدعة لم يرد فيه شئٌ على أن الناس إنما يفعلونه تعظيماً له e فالعوام معذورون بذلك بخلاف الخواص والله سبحانه أعلم بالصواب ) . ( الفتاوى الحديثية [58]).

ثامناً : كثير من احتفالات المولد تستخدم فيها آلات اللهو من الدفوف و الشبابات ونحوها.

و قد صرَّح جمعٌ كبيرٌ من العلماء بالنهي عن ذلك واعتباره من البدع الشنيعة ، ومثل ذلك لا يخفى على عاقل ولو شئنا جمع ما في ذلك من فتاوى وبحوث لما وسعها مجلد ضخم . وحسبك هذه الأبيات للعلامة إسماعيل بن أبي بكر اليماني المقرئ أحد أئمة الشافعية بزبيد (ت 837 هـ)حيث يقول:

برغم ســــــنة خير العُجم و العُرب أمست مساجــــــدنا للهـــــو واللعب

ما كــــــان صلــــى عليه الله يأمرنا بضـــــرب دفٍّ ولا زمــــــر ولا قصب

بل كفّ عن مزمر الراعي مسامعه صـــــــدّاً لها ولنا عــــن هــذه اللعب

فضحتمونا وصيَّــــــرتم مساجدنا وهي المصونات كالحانات للعـــــــــب

فلا تطيـــــــلوا علينا في مساجدنا فإنها جُعلت للصحف والكــــــــتب

وللعـــــبادة والتــــــــسبيــــح لا لعباً يغري امرءاً بالتصابي وهو غير صبي

وهنا سرٌّ يجب أن نكشفه وإن كان قد سبق التلميح إليه وهو : لماذا تقتصر الموالد على ذكر الأخبار الباطلة و الإسرائيليات المخالفة لما هو معلوم من ديننا؟‍!

لماذا هذا الاقتصار من سيرة النبي الكريم على مولده وما حصل في صباه؟‍!

لماذا التركيز على صفاته الخَــلْقية و الإسفاف في ذلك إلى حدٍّ يصل إلى قلة الأدب ؟‍!

لماذا لا يكون التركيز على أخلاقه الفاضلة وشمائله الكريمة التي يُسن الإقتداءُ بها ؟!

لماذا لا تُذكر فيها دعوته وما لا قى في سبيلها ؟

لماذا لا يــُذكر جهاده وغزواته ؟!

لماذا إن كان المقصود مدحه وتعظيمه لا يـــُـؤتى بالمدائح القوية المتفق على جمالها وجلالها وقوتها وسلامتها من الغلو والإفراط . وإنما تـُخـتار قصائد هزيلة مليئة بالأخطاء من كل نوع ؛ عقائدية ،وسلوكية ،وحتى نـحْــوية وعروضية ألا أنها لأشخاص يراد أن تُذاع أسماؤهم وتقترن بالنبيe فقط ؟

والجواب الذي يكشف الحجاب :أن مخترعي قصص المحشرهم فياحتفال بها إنما أرادوا إلهاء الناس و إشغالهم بذلك أرادوا صدهم عن قراءة السيرة النافعة بذلك الذي لا نفع فيه ، أرادوا إماتة روح الجهاد وإضعاف جانب التأسي بالنبيe .

أرادوا تقديس أشخاص لا يمكن تقديسهم إلا عبر حشرهم في تلك القصص ، فليس تعظيم النبي e بقدر ما هو مقصود تعظيم أولئك الأشخاص .

والدليل على ذلك : قراءة تلك القصائد التي يصف فيها أصحابه أنفسهم بما لم يوصف به النبي e بل بما لا يجوز أن يوصف به إلا الله تعالى .

قال الإمام الشوكاني رحمه الله في جوابه لمن سأل عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي _:( لم أجد إلى الآن دليلا يدل على ثبوته من كتاب, ولا سنة, ولا إجماع, ولا قياس, ولا استدلال, بل أجمع المسلمون أنه لم يوجد في عصر خير القرون, ولا الذين يلونهم ولا الذين يلونهم, وأجمعوا أن المخترع له السلطان - الكردي - المظفر أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين علي سبكتكين صاحب أريل،وعامر الجامع المظفري بسفح قاسيون.( [1] ) وقف على ابتداع المولد في القرن السابع ،وهو في المائة السابعة، ولم يُنكر أحد من المسلمين أنه بدعةوإذا تقرر هذا لاح للناظر أن القائلَ بجوازه بعد تسليمه أنه بدعة، وأن كل بدعةٍ ضلالة بنص المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا بما هو ضدٌ للشريعة المطهرة، ولم يتمسك بشيء سوى تقليده لمن قسّم البدعة إلى أقسام ليس عليها آثار من علم.

والحاصل أنا لا نقبل من الفلان،الجواز مقالةً إلا بعد أن يقيمَ دليلاً يخص هذه البدعة التي يعترف بها من ذلك العموم الذي لا يُنكره .

وأما مجرد قال فلان، وألف فلان ، فهذا غير لائق.

ختاماً.بر من كل أحد على أنا إذا عولّنا على أقوال الرجال ، ورجعنا إلى التمسك بأذيال القيل والقال ، فليس القائل بالجواز إلا شذوذ من المسلمين ( [2] ).

ختاماً .. فإن هذا ما تيسر جمعه في موضوع هذه الرسالة، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا قريباً إن شاء الله في الطبعة الثانية لهذه الرسالة_ لمزيد من البسط والمناقشة لأدلة المؤيدين لهذه البدعة .

ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الباحثين عن الحق، الحريصين على الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وكتبه:

أحمد بن حسن المعلم

المكلا_ حضرموت

 

وما أحسن ما قاله الشيخ محمد الغزالي المصري –رحمه الله – في كتابه (فقه السيرة): ( إنه من الظلم للحقيقة أن تتحول إلى أسطورة خارقة . ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة، أن تُعرض في أكفان الموتى . إن حياة محمد : ليست بالنسبة للمسلم - مسلاة شخص فارغ ، أو دراسة ناقد محايد، كلا -كلا – إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها ، ومنبع الشريعة العظيمة يدين بها ، فأيُّ حيف في عرض هذه السيرة، وأيُّ خلطٍ في سرد أحداثها :إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسها ن ومحمد ليس قصة تُتلى في يوم ميلاده ، كما يفعلُ الناس الآن ، ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التي على ألفاظ الأذان . و أكنان حبه بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون ، ويتأوهون أو لا يتأوهون . فرباط المسلم برسوله الكريم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين .وما جنح المسلمون إلى هذه التعابير للإبانة عن تعلقهم بنبيهم إلا يوم أنم تركوا اللباب الملئ وأعياهم حمله ، فاكتفوا بالمظاهر والأشكال . ولـمَّـا كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة في الإسلام .فقد افتنوا باختلاق صورة أخرى ! فهي لن تكلفهم جهداً ينكصون عنه ؛ إن الجهد الذي يتطلب العزمات ، هو في الاستمساك باللباب المهجور ، والعودة إلى جوهر الدين ذاته . فبدلاً من الاستماع إلى قصة المولد يتلوها صوت رخيم ، ينهض المرء إلى تقويم نفسه ، وإصلاح شأنه ، حتى يكون قريباً من سنن محمدٍ في معاشه ومعاده ن وحربه وسلمه ، وعلمه وعمله ، وعاداته وعباداته ..إن المسلم الذي لا يعيش محمد الرسول e في ضميره ولا تتبعه بصيرته ، في عمله وتفكيره ؛ لا يغني عنه أبداً أن يحرِّك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة ) ( دعوة الخلف إلى طريقة السلف ص343-344) . 

 

 

 

 

 

 

 

 


[1] بل الصحيح أن العبيدين هم أول من ابتدع ذلك،كما ذكر ذلك المقريزي والقاقلشندي وغيرهم انظر ما تقدم ص(35_41).

[2] بحث في المولد للإمام الشوكاني ، مطبوع ضمن كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، تحقيق محمد صبحي حلاق (2/1087- 1089).

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم