الخطب والمحاضرات

سبل الخروج من الأزمة

2010-03-13



بسم الله الرحمن الرحيم

مسجد خالد بن الوليد

سبل الخروج من الأزمة لفضيلة الشيخ أحمد المعلم

28ربيع الآخر1432هـ - 1/4/2011م

- الحمد والثناء:

-الوصية بالتقوى:

أيها الإخوة المؤمنون:

لقد حذرنا الله ورسوله من الفتن فقال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به) رواه البخاري ومسلم.

وللفتنة معاني كثيرة والمقصود هنا ما قرره الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أنها ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل، يعني ما ينشأ عن ذلك من القتال والصراعات - أجارنا الله منها - فعلى كل ناصح لنفسه أن لا يدخل في شيء من ذلك، خصوصاً عندما تكون الأمور ملتبسة، والحقيقة غائبة، فلا يقاتل قتالاً لا يعرف أنه في مرضاة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: ( من قُتل تحت راية عمية يدعو عصبيةً أو ينصر عصبية فقِتلة جاهلية ) رواه مسلم، فالراية العمية هي الأمر الأعمى الذي لا يستبين وجهه ولا يعرف فيه المحق من المبطل، والميتة الجاهلية تعني أنه يموت على خلاف منهج النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا النوع من الفتنة لا يجوز الانغماس فيه ولا المشاركة فيه، لا بالسلاح ولا باللسان بل يجب البعد عنه.

ومما يدل على انتشار الفتنة وهيجانها المجازر التي ارتُكبت في صنعاء قبل أسبوعين وفي أبين قبل أيام، ومابين ذلك من حوادث متفرقة سالت فيها دماء وأزهقت أنفس وانتهكت محرمات، ونحن نُدين ذلك كله وندين مجزرة أبين لقرب حدوثها ونعزي أسر الضحايا، ونسأل الله للموتى المغفرة والرحمة، ونطالب بكشف حقيقة ما جرى والتحقيق السريع والجاد لمعرفة المتسبب في ذلك، ثم محاكمته ومعاقبته المعاقبة الرادعة، ومعاقبة من يقف وراءه إن وجد.

عباد الله:

إن أجواء الفتنة والتباس الأمور، وانتشار الإشاعات ووجود الاستفزازات التي تخيم على بلادنا هذه الأيام، تستدعي أن نتخلق ببعض الأخلاق الحسنة التي تصد عنا الفتنة، وتقينا من السقوط فيها.

ومن تلك الأخلاق: خلق الحلم وهو الأناة وعدم الاستجابة لردود الأفعال، وضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب؛ فإن الاستفزازات في أجواء الفتنة كثيرة، ولابد من الحلم لنسلم من ردود الأفعال الطائشة والمتسرعة؛ حتى لا نقع في الخطأ والفتنة، قيل للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحلم؟ قال من قيس بن عاصم المنقري : دخلوا عليه وهو محتبٍ في مجلس قومه, دخلوا عليه بولده مقتولاً بغير حق، فقال : ما هذا، قالوا: هذا ابنك قتله فلان ابن عمه, قال الأحنف: فوالله ما حل حبوته، وما كان منه إلا أن قال: ادفنوا المقتول، وفكوا وثاق القاتل، وأعطوا لأم القتيل مائة ناقة فإنها من قوم آخرين.

فتأمل أخي هذه القصة كلما تعرضت للاستفزاز، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب ) متفق عليه.

عباد الله :

ومما يكثر هذه الأيام: الإشاعات والأخبار الكاذبة، بعضها مقصود وبعضها غير مقصود، والإشاعة من أخطر الأسلحة وأكثرها فتكاً بالمجتمعات؛ لما يترتب عليها من آثار إما بمواقف خاطئة، وإما بإفساد بين الناس، وإما بتحطيم معنويات، وإما بغير ذلك، فعلى المسلم أن يحذر أن يختلق الإشاعة فهي كذب، وقد قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ورؤياه حق: رأى رجلاً مستلق على قفاه وآخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيسوي وجهه إلى قفاه وعينه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل مثل ذلك، فما يفرغ حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به كما فعل به في المرة الأولى، قلت: سبحان الله ما هذا؟ فقالا: فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.

فانظر إلى هذه العقوبة الشديدة في البرزخ، وماذا ينتظره يوم القيامة! إن هذه العقوبة إنما عظمت لعظم الجرم الذي يرتكبه مروجو الإشاعات الكاذبة، وكما يحرم اختراع الإشاعات، يحرم نشرها وإذاعتها مادام أنه غير متأكد من صحتها، قال صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ) رواه مسلم

وقال صلى ( بئس مطية الرجل زعموا ) رواه أحمد وأبوداود وصححه الألباني.

ويجب على المتلقي للأخبار أن يكون متثبتاً متحرياً، فلا يقبل كل خبر، ولا يتخذ موقفاً على كل ما يسمع؛ فإن ذلك سوف يؤدي به إلى ظلم أناس، أو إلى اتخاذ مواقف خاطئة، أو أن يحطم معنويات نفسه أو غيره، ويوقع المجتمع في الهزائم النفسية والرعب الشديد؛ لذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وحتى لو صحت بعض الأخبار مما قد يحتمِل أكثر من معنى وأكثر من وجه؛ فإن الواجب هو التأني في تفسيره وفي نشره أو اتخاذ المواقف بناءاً عليه، حتى يتبين وجهه الصحيح؛ وذلك برده إلى من يفقهه الفقه الصحيح من العلماء، وأهل الخبرة والاختصاص، ممن يوثق بهم ويطمئن السامع أنهم ناصحون له: قال تعالى : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}.

أيها الإخوة المسلمون:

قامت في الأحياء والوحدات لجان شعبية، مهمتها المساعدة على حفظ الأمن والسكينة العامة للسكان، وقد قامت بعملها على وجه جيد ارتاح له الناس، أمنوا على أنفسهم وممتلكاتهم، فجزى الله كل المساهمين والمشرفين عليها خير الجزاء، ويسعدنا هنا أن نؤكد على هذه اللجان، وأنه ينبغي لها الثبات والاستمرار وعدم الملل والانقطاع، حتى يرفع الله المحنة ويتم النعمة

كما نؤكد عليها الثبات على هدفها الأساس: وهو حفظ الأمن، وتقديم الخدمات الضرورية للناس، وألا تحيد عن هذا الهدف أبداً، تفرض نفسها بديلاً عن السلطة المحلية، بل مساندة ومساعدة لها على حفظ الأمن وخدمة الناس، كما نؤكد عليها أن تستمر على انضباطها وتقيدها بالتوجيهات التي يصدرها المشرفون الأمنيون لها، فهم أهل الخبرة والتجربة، وهم المرجع في هذه الناحية، كما نؤكد عليها أن تكون نموذجاً للأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة، والحفاظ على شعائر الدين؛ فإن من لم يحافظ على دينه فلن يحافظ على شيء، ومن أضاع أمانة الدين فهو لما سواها من الأمانات أشد تضييعاً، كما نلفت أنظار القائمين عليها أن لا يسمحوا لأحد أن يشوه سمعتهم وسمعة لجانهم، بأي تصرف غير لائق، وأن لا يصدر من أحد ممن ينسب إليهم أي تصرف يزعج المواطنين أو يشككهم في نزاهة اللجان، كأن يأتي من يتحدث باسمهم ويأمر التجار أو غيرهم بدفع رسوم حراسة أو نحو ذلك، أو يزعم أنه مخول يجمع المال للجان، فكل ذلك مرفوض واللجان طوعية لا تبتغي بعملها جزاءً ولا شكوراً إلا من الله تعالى، وما تحتاجه من دعم لتسيير عملها فإنما تقوم به لجان مختصة وليس كل أحد، فليتق الله الجميع وليستبرؤا لدينهم وعرضهم، وأسأل الله لهم التوفيق والسداد

أيها الإخوة المؤمنون :

ومن مظاهر الفتنة التي تخيم علينا في جو الأوضاع الراهنة، أن تُعطَّل المدارس، وتنقطع الدراسة، ويحرم طلابنا من دراستهم أسابيع متطاولة، فها هي معظم المدارس في المحافظة متوقفة مغلقة الأبواب، وهاهم يتسكعون في الشوارع مما يعود عليهم بأضرار بالغة تربوية وتعليمية وأخلاقية، وقد أجمع العقلاء على رفض هذا الحال ونادى المخلصون من أولياء أمور الطلبة والتربويين وسائر المخلصين، بل وعقال الطلاب الجميع ينادي بصوت واحد كفى تعطيلاً للدراسة، كفى تجهيلاً، كفى حرماناً من العلم، كفى إثقالاً لكواهلنا بتحمل أياماً شديدة في الصيف نعوِّض بها ما فاتنا الآن.

وهذا نداء للطلاب: ارحموا أنفسكم، راجعوا عقولكم، بادروا إلى مدارسكم فهو خير لكم من جهات عديدة، ونداء لأولياء أمورهم أن يشجعوهم على الدراسة، أوقفوهم عن التسيب واللعب في غير وقته، أقنعوهم بما فيه مصلتحهم، لا تتركوا لهم المجال للضياع والجهل، ونداء للقائمين على التعليم: جدوا واجتهدوا وخذوا الأمر بقوة، لا تفرحوا بالعطل والتعطيل، اعلموا أن الطلاب أمانة في رقابكم، فاحرصوا على أداء الأمانة على وجهها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أزيلوا ما استطعتم من أسباب نفرة الطلاب من التعليم.

ونداء للسلطة المحلية أن تقوم بدورها، وتساعد القائمين على التعليم بتوفير ما يحتاجه الأمر لإعادة الدراسة واستمرارها، بتنفيذ وإعطاء المطالب المشروعة للمدرسين والطلاب، وعدم المماطلة فيها، وكذلك بتوفير الأمن للمدارس، وردع العصابات التي تهدد المدرسين والطلاب وتدفعهم لترك الدراسة، فتلك مسئوليتك وكلكم راع ومسئولون عن رعيتكم، فلا يسألكم الله عن هذه الأمانة فتجدون أنفسكم عاجزين عن الجواب.

أحبتي الطلاب: اسمعوا النصيحة، وأجيبوا النداء، وبادروا إلى دراستكم، فإن كان لكم مطالب مشروعة، فنحن جميعاً سنكون معكم، ولكم الحق في المطالبة بها بالطرق السلمية، ومن غير أن تضروا بدراستكم، والله يوفق الجميع.

 

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله:

بعد أن كشف الله حال المنافقين، وجلّى حقيقة مواقفهم ونفسياتهم أثناء إطباق الأحزاب على المدينة يوم الخندق، وما ظهر من مكنونات صدورهم نحو الإسلام والمسلمين وتخوفهم وهلعهم الشديدين، قال جل ثناؤه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.

وهذا يدل على أن للناس في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ليس فقط في عبادته وأخلاقه ومعاملته، بل جميع أموره، ومنها حربه وسلمه وسياسته واقتصاده، وبالجملة جميع شئون دينه ودنياه، فهو المثل الأعلى في كل ذلك.

أقول: هذا وأنا أنظر وأتأمل الأزمة التي تعيشها بلادنا، وهي أزمة سياسية بالدرجة الأولى، فهل لأطرافها (أُسْوَةٌ حَسَنَة ) برسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

لقد استلهم الصحابي الجليل سهل بن حنيف هذا المعنى حينما نجمت أزمة كبرى لها تعلق بالسياسة من جوانب كثيرة، هي أزمة الفتنة التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ودعى إلى الصلح والتحاكم فتردد بعض الأطراف، فقال لهم سهل رضي الله عنه: ( أَيُّهَا الناس اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كنا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا على الْحَقِّ وَهُمْ على الْبَاطِلِ؟ فقال: بَلَى، فقال: أَلَيْسَ قَتْلَانَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟ قال: بَلَى، قال: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فقال: يا ابن الْخَطَّابِ إني رسول اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي الله أَبَدًا، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إلى أبي بَكْرٍ فقال له مِثْلَ ما قال لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه رسول اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ الله أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على عُمَرَ إلى آخِرِهَا، فقال عُمَرُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أو فتح هو؟ قال نعم. رواه مسلم.

عباد الله:

ونقاط الصلح التي وافق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رآه كثير من الصحابة تنازلاً: أنهم رفضوا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، وقالوا: اكتب باسمك اللهم، ورفضوا أن يكتب محمد رسول الله وقالوا: اكتب اسمك واسم أبيك، فكتب محمد بن عبدالله، ورفضوا أن يتموا عمرتهم التي جاءوا محرمين بها ومعهم الهدي على أن يقضوها العام القادم، فوافق لهم، ومنها أن لا يأتي رجل مسلم مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رده، فقبل، وأنه إن ارتد أحد من المسلمين ورجع إلى أهل مكة فلا يلزمهم رده، وأكبر من ذلك أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو جاء يرسف في قيود، هرب من أهله الذين كانوا يفتنونه عن دين الله، حتى رمى نفسه بين المسلمين، وذلك قبل أن يكتب كتاب الصلح؛ فطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تشمله الاتفاقية فأبى والده، فاستوهبه إياه فرفض، فانظروا إلى هذا التعنت من المشركين، وكيف قابله النبي صلى الله عليه وسلم بالتجاوب والتنازل وهضم النفس وتحمل لوم أصحابه الذين أكثرهم كارهين ما جرى؟.

كل ذلك قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الغاية العظمى والهدف الأسمى الذي رسمه لنفسه، ولخصه بقوله: ( لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ) فتعظيم حرمات الله هو الهدف البعيد والثابت الذي يهدف إليه، وفي سبيله تنازل تلك التنازلات المؤلمة له ولأصحابه، وثمت هدف آخر قرره القرآن الكريم، من أجل تحقيقه جرت الاتفاقية، وأبرح الصلح، وتأخر الفتح، ألا وهو حقن دماء المؤمنين المستضعفين المبثوثين بين مشركي مكة، فمن أجل الحفاظ على تلك الدماء الطاهرة قضى الله بتأخير الفتح قرابة سنتين، قال تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)

أقول: إن ذلك الصلح لما كان يهدف إلى تلك الأهداف العظيمة، ومع ما احتوى عليه ظاهراً من تنازلات غير مقبولة، حكم الله أنه كان فتحاً مبيناً.

فيا أيها الأطراف المتنازعة في يمننا الحبيب: من رئيس البلاد ومَن معه والمعارضة السياسية وجماهيرها والشباب الذين يملأون الساحات، أيها الإخوة جميعاً، ضعوا الهدف الأسمى والأعلى التغيير الشامل إلى الأفضل والأحسن، ولا أظن أحداً منكم يختلف على ذلك، واعلموا أن قاعدة ذلك وأساسه تحكيم شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، فهذا هو أصل الأصول للتغيير، فارفعوا شعاره ولو سخط لذلك من سخط؛ فإن رضا الله غاية لا تدرك، فلا تدعوا ما لا يترك لما لا يدرك.

ثم اجعلوا الهدف الموازي للهدف الأول حقن دماء اليمنيين جميعاً، والحفاظ على أمن واستقرار وسكينة اليمن، ولن يتحقق الهدف الأول إلا بتحقق الهدف الثاني، وهذا هو الذي علل به القرآن الكريم لتأخير الفتح وتسخير رسوله لقبول الصلح، فكان الفتح وذهبت التنازلات وسجلت في التاريخ مناقب لا مثالب، وأوسمة فخر وشرف لا مواقف ذل ومهانة.

وهذا ما أراد سهل بن حنيف أن يتكرر يوم صفين، ولكن لحكمة أرادها الله لم يُستجب له، فكان ما كان مما تزال آثاره السيئة ماثلة إلى اليوم.

وأنا أدعوكم جميعاً يا قادة أطراف النزاع، وأدعو الرئيس بشكل أخص أن تتأملوا صلح الحديبية، ولا تعتذروا بأي عذر من الأعذار؛ فإن الأعذار التي كانت قائمة أمام النبي صلى الله عليه وسلم أقوى من أعذاركم، ومع ذلك لم يلتفت إليها.

إنه قد التزم لربه بعقد الإحرام، الذي لا يجوز لمن التزمه أن يخرج عنه، وقد وعد أصحابه أنهم آتون البيت ومطوفون به، وكان يمكن أن يعتبر ذلك عذراً قوياً يمنع من قبول الصلح فلم يفعل، وكان في موافقته على بنود الاتفاق إسخاط لأصحابه، وهذا لدى القادة والسياسيين من أعظم المعوّقات، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتبره.

تصوروا أمراً يعترض عليه عمر بن الخطاب وكبار الصحابة، كيف يكون تجاهله؟! إنه أمر صعب ولكنت ضياع الأهداف العظيمة أصعب، فيا أيها الإخوة لا يغلبنكم الملتفون حولكم ممن أهل المصالح التي ربطوها بوجودكم، ولا تغلبنكم الجماهير التي تخشون انفضاضها عنكم، ولا تغلبنكم أهواء أنفسكم وكبرياؤها، ولا يغلبنكم شيء من ذلك، وحددوا الأهداف العظيمة، وجردوا الهمم لتحقيقها، واستعينوا بالله على ذلك فهو نعم المولى ونعم النصير، ولا تشمتوا باليمن وأهله أعداءه والمتربصين به، ولا تخرجوا عن مقتضى الإيمان والحكمة التي وصفنا النبي صلى الله عليه وسلم بها أهل اليمن.

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم