الخطب والمحاضرات

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ

2010-02-19



بسم الله الرحمن الرحيم


15/11/1421هـ
مسجد خالد بن الوليد


( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ )


الحمد لله الذي جعل بيته العتيق مهوى أفئدة المؤمنين، ومطمح أنظار المتقين، وقبلة الراكعين والساجدين.
بوَّأ مكانه لإبراهيم الخليل، ووفقه وأعانه على ذلك العمل الجليل: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ].
ثم أمره فأذّن في الناس بحجه فأجابه المؤمنون، ولباه العابدون وتعاقب على حجه الأنبياء والمرسلون، ثم بعث محمداً  بعدما انحرف الأنام، واحلولك الظلام، وعم الشرك وعبدت الأصنام، فحطم ما أحاط به من الأنصاب و الأزلام، و طهره مما دنسه من الأرجاس والآثام.
وأعاد لملة إبراهيم نقاها، والعقيدة التوحيد صفاها، ثم حج حجة وودع فيها أمته، وأبان ملته، وأوضح شريعته، وحرص فيها أن يقتدي بأعماله المؤمنون، ويتعلم منه الحجاج و المعتمرون.
فكان يجيب من سأل كيف أو لماذا، و يكرر في كل مشعر: (خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ( [1] ) فصلى الله عليه وسلم ما لبى المبلون، وطاف الطائفون، وذكر الذاكرون، وغفل عن ذكر الله الغافلون. وعلى آله الطاهرين وصحابته الأكرمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. و أشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أيها الأخوة المؤمنون:
يقول ربكم تبارك وتعالى: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ(27) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ(29]. {الحج}. عباد الله:
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن نشأة بيته الحرام، وأنه ألهم إبراهيم مكانه، وأمره بأن يبنيه ويرفع قواعده على التوحيد الخالص، وتأملوا كيف أكد هذا الأمر إذ أمره أن لا يشرك في هذا البيت مع الله أحداً، ثم كرر ذلك بأسلوب آخر فقال: [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ِ] قال المفسرون: طهره من الشرك و الأرجاس، فالنشأة يجب أن تكون لله وحده، ويجب أن يستمر على ذلك، فلو حاول محاول أن يوجد فيه ما يخالف ذلك فقد جاء الأمر بتطهيره منه ليبقى خالصاً لله وحده على مدار التاريخ. ثم يأتي هذا التأكيد الثالث حيث خص البيت بأنه [لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِِ] أي المتعبدون لله وحده لا شريك له.
ثم أمره أن يؤذن في الناس بحج هذا البيت المؤسس على التوحيد، وكرر في آيات الحج النهي عن الشرك والأمر بالتوحيد، بل جعل شعار الحج هو المعاهدة على التوحيد وإعلان الإجابة إليه و الالتزام به: " لبيك الله لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك " فلا غرو أن يكون الحج رمز التوحيد والوحدة.
أما التوحيد فدليله ما سبق، وأما الوحدة فدليلها ذلك البحر المتلاطم من أجناس مختلفة و ألوان مختلفة ولغات مختلفة ودول مختلفة، حيث وحد بينهم الحج، فشعار واحد ولباس واحد وأعمال واحدة، ونظام دقيق يسير فيه الجميع أي وحدة أعظم من هذه الوحدة؟
أيها الأخوة: ومن أجل أن يحصل الحاج على ما خص الله به الحج من أسرار وبركات منافع في الدنيا والآخرة، ومن أجل أن يكون الحج مبروراً جزءاه الجنة وأن يرجع منه العبد خالياً من الذنوب كيوم ولدته أمه، لا بد أن يؤدى على الوجه الصحيح الذي أراده الله، وفعله وعلمه الرسول r. و أكد على الأمة أن تقتدي به، فكان في كل مناسبة وفي كل مرحلة من حجه يقول: (خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ( [2] ) ولكي يكون الحج كذلك علينا أن نحرص على الأعمال الآتية:
1) الإحرام: وهو نية الدخول في الحج و العمرة: فلا بد أن يستحضر ذلك الحاج وأن يجعله خالصاً لوجه الله، لا يريد به رياءً ولا سمعة ولا جزاء إلا من الله تعالى، فيحرم المسلم إما بحج مفرد فيقول (لبيك اللهم حجاً) وإما قارناً فيقول: (لبيك الله حجاً وعمرة) وإما متمتعاً فيقول: (لبيك اللهم عمرة متمتعاً بها إلى الحج) وكلها جائزة غير أن التمتع هو الأفضل لأنه هو الذي تمناه رسول الله  لنفسه و أمر به أصحابه.
ويكون الإحرام من الميقات حيث لا يجوز للحاج أو المعتمر أن يجاوز الميقات إلا محرماً وميقات أهل اليمن يلملم. فالذاهبون بالبر ينزلون به ويحرمون منه، والمسافرون بالطائرة يحرمون عند أو قبل محاذاته بقليل حيث ينبه الملاحون على ذلك.
ولا يجوز لأحد أن يتأخر عن الإحرام عنه إلى جدة؛ لأن في ذلك تجاوز للميقات وتجاوز الميقات بغير إحرام للحاج والمعتمر حرام لا يجوز عند عامة العلماء إلا في حالة واحدة بالنسبة لركاب الطائرة وهي إذا ما أراد بعضهم الذهاب مباشرة إلى المدينة، فله أن يبقى بدون إحرام وأن يمشي فوراً من المطار إلى المدينة، ثم عند عودته يحرم من ميقات أهل المدينة.
وعند الإحرام يجب أن يكون الحاج الرجل قد تجرد من جميع ملابسه العادية، ولبس لباس الإحرام الإزار والرداء فقط، فمسافر البر أمره معروف، ومسافر الجو عليه أن يستعد بذلك من داره ليلبس في المطار أو الطائرة، وأما المرأة فليس لها لباس خاص، وإنما ليس لها أن تلبس النقاب و القفازين.
وقبل الإحرام كذلك يستحب: أخذ ما يستحب أخذه من الشعر والأظفار، وأن يغتسل ويتطيب في بدنه لا في ثوبه، وأن يصلي صلاة إن كان الحال والوقت مناسباً لذلك. ويستحب كذلك عندما يحرم أن يدخل في الإحرام و يقول لبيك اللهم حجاً أو عمرة وأن يزيد على ذلك (فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) ويُسمى هذا الاشتراط، وذلك احتراز فيما لو حصل للحاج مانع أن يخرج من الإحرام دون أن يجب عليه شيء لا فدية ولا غيرها.
وعندما يدخل في الإحرام: فإنه يحرم عليه الطيب وقص الشعر وتقليم الأظافر وتغطية الرأس للرجل والصيد على الجميع و تسمى هذه محرمات الإحرام.
وبعد الدخول في الإحرام ينبغي للجميع ملازمة التلبية والإكثار منها ورفع الصوت بها للرجال.
فهي شعار الحج وفيها يقول النبي : (أفضل الحج العج و الثج) ( [3] ) فالعج رفع الصوت بالتلبية، والثج سيلان الدم من الهدي. فعلى الحاج والمعتمر أن يلازمها ويستمر عليها حتى يدخل الحرم ويدخل الكعبة فهناك تنقطع.
فإذا وصل إلى البيت الحرام فليدخله كما يدخل سائر المساجد آتياً بذكر الدخول مقدماً رجله اليمني ثم يتجه إلى الكعبة، ويضطبع بردائه ويبتدئ الطواف من محاذاة الحجر الأسود فيرمل ثلاثة أشواط ويمشي الأربعة الباقية، فإن استطاع استلم الحجر الأسود وإن لم فليكبر ويشير إليه في بداية كل شوط، ويستلم الركن اليماني كلما مر به إن استطاع وإن لم يستطع فليس عليه شيء آخر. وليكن في حال طوافه على طهارة كاملة وعليه أن يشغل نفسه حال الطواف بذكر الله تعالى ودعائه بما يحب من خيري الدنيا والآخرة، ولم يثبت عن النبي  هناك ذكر مخصوص إلا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود فإنه يقول (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وبعد أن يكمل سبعة أشواط فإنه يصلي ركعتي الطواف خلف المقام إن أمكن وإلا في أي مكان من الحرم. ثم يشرب من ماء زمزم ويتضلع من ذلك، ويغتسل منه ويشرب بنية صالحة فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ماء زمزم لما شرب له ) ( [4] ).
ثم بعد صلاة الركعتين يخرج إلى المسعى ويبدأ بالصفا تالياً هذه الآية: [إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ثم يقف بالصفا مستقبلاً الكعبة رافعاً يديه قائلاً: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده صدق وعده و نصر عبده وأعز جنده و هزم الأحزاب وحده) ثم يدعوا بما أحب ويكرر ذلك الذكر والدعاء ثلاث مرات. ثم يبدأ بالسعي ماشياً حتى إذا جاء بين الميلين الأخضرين سعى - أي خب مسرعاً - حتى نهايتهما ثم يمشي الباقي حتى يأتي المروة وعنده يقول ما قاله عند الصفا من التلاوة والذكر، ثم يعود بالشوط الثاني من المروة إلى الصفا. و هكذا حتى يكمل سبعة أشواط و تكون نهايتها على المروة.
وبعد نهاية السعي فإن كان محرماً بالحج وحده أو قارناً بين الحج والعمرة فإنه يبقى على إحرامه حتى يرمي جمرة العقبة يوم العيد، وأما إن كان متمتعاً فإنه يُقصر من شعره فالرجل يقصر من شعر رأسه من جميع نواحيه والمرأة يجمع شعرها، ثم يؤخذ منه مقدار البنان (1سم) تقصه هي أو امرأة أخرى أو مَحرَم من محارمها في مكان مستور ولو في السكن بعد الرجوع إليه.
ثم يبق المتمتع حلالاً في مكة أي لا يُحرم عليه شيء من محرمات الإحرام - و أما المفرد و القارن- فإنهما يبقيان بإحرامهما ويحرم عليهما جميع محظورات الإحرام حتى الرمي في يوم العيد، وللمحرم بعد وصول مكة وأداء العمرة أو طواف القدوم والسعي أن يذهب حيث شاء في مكة أو جدة وغيرهما، ولكن البقاء في مكة والصلاة في الحرم فرصة عظيمة لا ينبغي للمسلم أن يضيعها على نفسه فالرسول  يقول : (وَصَلَاةٌ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ من مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) ( [5] ).
والمفرد لا يلزمه هدي وأما المتمتع والقارن فعليهما هدي لقول الله تعالى: [فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ] فمن وجد الهدي وجب عليه الهدي، ومن لم يجد فعليه أن يصوم ثلاثة أيام إما قبل يوم عرفة وإما أيام منى أي يوم الحادي والثاني والثالث عشر، وعلى هذا فإن من أراد الصوم بعد الحج فإنه لا بد أن يمكث في منى ثلاثة أيام ولا يخرج اليوم الثاني عشر وأما السبع الباقية فإنه يصومها إذا رجع إلى بلده.
والهدي يجوز أن يذبحه بنفسه أو أن يؤكل غيره في ذبحه والتصدق به، و له أن يأكل و يهدي ويتصدق قال تعالى: [وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {الحج:36}.


الخطبة الثانية
- الحمد و الثناء و الوصية بالتقوى.
عباد الله:
فإذا جاء اليوم الثامن وهو يوم التروية فعلى الحجاج من كان منهم قد تمتع أن يحرم مرة أخرى من المكان الذي هو فيه فيحرم بالحج، ومن بقي على إحرامه أن يستمر على ذلك.
ثم يخرجون جميعاً إلى منى حيث يقيمون فيها يوماًً وليلة يصلون فيها – الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من اليوم التاسع - قصراً بدون جمع فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع توجهوا إلى عرفات، و يستحب لهم في إحرامهم هذا ما يستحب في الإحرام الأول كما سبق، وكذلك يحرم عليهم من المحظورات ما حُرم عليهم أولاً وعليهم ملازمة التلبية و ذكر الله.
عباد الله:
يوم عرفة هو أفضل أيام الحج وفيه من الأعمال والمنح الربانية ما لا يوجد في سواه، فعلينا جمعياً أن نكون فيه على مستوى عظمته من التهيئة النفسية والحرص على استغلاله أفضل استغلال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم 2 /943 برقم 1297.
[2] رواه مسلم 2 /943 برقم 1297.
[3] رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم: 1101.
[4] رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي وصححه الألباني: انظر حديث رقم: 5502 في صحيح الجامع.
[5] رواه أحمد وابن ماجه عن جابر،وصححه الألباني: انظر حديث رقم: 3838 في صحيح الجامع.

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم