الخطب والمحاضرات

أكرموها قبل أن تفقدوها(3)

2010-02-11



أكرموها قبل أن تفقدوها(3)

19/ربيع الثاني/1429هـ

مسجد خالد بن الوليد

 

الحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها و جعل بيننا مودة و رحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، و الصلاة و السلام على خير الناس لأهله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، و أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا].

عباد الله:

تحدثت إليكم في خطبة ماضية عن بعض حقوق المرأة على زوجها، و عن واجب الزوج داخل بيته وأسرته، وكيف يعدل بين الأطراف المختلفة داخل تلك المملكة المصغرة. وبقيت نقطة مهمة متعلقة بذلك الموضوع لم يسعفني الوقت للحديث عنها، وهي شخصية الزوج وأعني بذلك أن الزوج يجب أن تكون له شخصية قوية يُحسب لها حسابها داخل البيت من كل الأطراف؛ لأن شروط استقرار أي تجمع بشري صغير كالأسرة، أو كبير مهما كان، شرطه أن تكون له قيادة محبوبة مرهوبة، فمتى وجدت استقرت الأوضاع ومتى فقدت اضطربت الأحوال وساءت.

وسبب كثير من المشاكل الناشئة في الأسر بين الزوجات ونساء أزواجهن، سببها ضعف شخصية الزوج، فهو إما أن تسيطر عليه الزوجة وتسخره حسب مزاجها وكيفما شاءت فيصطدم بأمه و أخواته، وإما أن يضعف أمامهن فيسيطرن عليه ثم يفرضن عليه أذية زوجته أو منع حقوقها أو نحو ذلك، وهذا سيؤدي إلى مشاكل كبيرة ربما استعانت المرأة بأهلها؛ فتنتشر المشكلة لتعم الأسرتين وهكذا.

فليتقِ الله الأزواج وليلزموا العدل و ليقولوا للمخطئ أنت مخطئ ولو كانت أمهاتهم أو آباؤهم، وإنما بالرفق و حسن الأسلوب قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا].

عباد الله:

وإن من حق المرأة على زوجها أن يكفيها حاجتها من الطعام و الكساء و الدواء وما تعارف الناس على توفيره لأنفسهم وأزواجهم، كل حسب طاقته وإمكانيته قال تعالى: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ] فالرجل يستحق القوامة على المرأة لأسباب منها أنه مكلف بالنفقة عليها وقال تعالى: [لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا] وقال تعالى: [وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا] و قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف) ( [1] ).

تؤكد هذه النصوص على أن النفقة واجبة على الأزواج لزوجاتهم، مقابل استمتاعهم بهن وخدمتهن لهم ومعاشرتهم بالمعروف، وأن تلك النفقة حقاً من حقوقهن يحاسب عليها الزوج في الدنيا و الآخرة، ولا تسقط بالتقادم، بل إذا قصر في شيء منها تبقى في ذمته، لها أن تطالبه به في الدنيا أو تتركه ليأتي به يوم القيامة حين لا يجد ما يعطيها منه إلا الحسنات إن كان له حسنات، وإلا فيؤخذ من سيئاتها فتطرح على سيئاته والعياذ بالله، وهذه النفقة إنما تكون بالمعروف أي بحسب ما يتعارف المجتمع عليه الذي يعيش فيه الزوجان، كل مجتمع بحسبه، وكذلك بحسب دخل الزوج ضِيْقاً وسعة يدل لذلك قوله تعالى: [لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ] أي ضُيق [فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا] و قوله [بِالمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا] فكما أن النفقة واجبة محتمة على الزوج؛ فإن مراعاة دخله و وضعه وظروف حياته كذلك يجب على الزوجة أن تراعيها، ولا تتعنت فتطلب ما لا طاقة له به.

عباد الله:

هذا الذي ذكرناه ما يجب في الأوضاع العادية، و أما وضعنا الحالي الوضع الصعب وضع الغلاء العالمي الفاحش والارتفاع الجنوني للسلع و المواد الغذائية، فيجب أن يُراعى فيه أمور أخرى من قبل الزوجين جميعاً.

أما الزوج: فمن أجل أن يعيش عيشة مستقرة ويؤدي واجباته نحو أسرته عليه:

أولاً: أن يبحث عن مصادر دخل إضافية حلال يحصل منها ما يعينه على مواجهة متطلبات أسرته؛ لتعيش عيشة كريمة قال صلى الله عليه وسلم: (استعن بالله و لا تعجز) ([2]).

ثانياً: عليه أن يُحسن التدبير و يراعي الضروريات، ويدعُ ما لا حاجة له ولأسرته به.

ثالثاً: عليه أن يقلع عن العادات الضارة والأمور المحرمة؛ لأنه لا يجوز عقلاً ولا شرعاً أن ينفق ماله في تلك الأمور و منها التدخين و القات وغير ذلك مما في حكمها، لا يجوز مطلقاً أن ينفق ماله فيها ويدع الأمور الضرورية من الطعام و الشراب و الكساء و الدواء الذي تحتاجه أسرته، إنه إن فعل ذلك فسوف يهدم الأسرة ويفككها وسوف يدفع بالأولاد إلى التشرد والضياع، وبالزوجة إلى الانحدار والرذيلة والفاحشة طلباً لسد الرمق وتوفير الحاجات الأساسية، ولقد كشفت دارسة عن انتشار البغاء و الدعارة في بعض المحافظات، وأن نسبة كبيرة من النساء اللاتي يتعرضن للوقوع في تلك المزالق كان السبب في ذلك عدم كفاية الدخل لسد حاجتهن، فهل ترضى يا من تخزن بجزء كبير من راتبك أن تذهب زوجتك إلى الفاحشة من أجل أن ترضى هواك و تتبع شهواتك بمواصلة التخزين؟.

وهكذا سائر من ينفقون أموالهم في أمور محرمة أو مكروهة أو حتى غير ضرورية، عليهم أن يقدروا الموقف ويتقوا الله في أسرهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ( [3] ) وغيرهما ويقول : (إِِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ) ( [4] ). وعلى الزوجة أن تراعي زوجها وأن تعينه على تحمل المسؤولية، و أن تبذل جهدها لتوفير ما تستطيع توفيره للحفاظ على ستر الأسرة وحفظ العيال في إطار ما أحله الله تعالى.

وعليها أن تصبر وتحتسب عندما يكون زوجها بالفعل فقيراً أو غير قادر على توفير كافة الطلبات، وتتأسى بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي كن يمر عليهن ثلاثة أهلّه من شهرين ولا يوقد في بيوتهن نار، وإنما طعامهن التمر والماء، وحتى التمر تقول عائشة رضي الله عنها ما شبعنا من التمر حتى فتحت خيبر يعني في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

وعليها أن تقلل من طلبات شراء الكماليات وما لا حاجة لها به، سواء من أدوات التجميل أو موضات الثياب الزائدة عن الحاجة الضرورية أو الفرش أو غير ذلك، و النظر إلى من هو دونها حتى تقنع بما هي فيه، ولا تنظر إلى من أعلى منها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انْظُرُوا إلى من أَسْفَلَ مِنْكُمْ ولا تَنْظُرُوا إلى من هو فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) ( [5] ). وعليها ألا تتطلع إلى ما يتمتع به من أنعم الله عليه.

كما أن على من وسّع الله عليه، ورُزق الرزق الحسن أن يحمد الله ولا يدع امرأته وعياله يتظاهرون بذلك ويتباهون به؛ لئلا يكسروا نفوس جيرانهم و يوغروا صدروهم.

عباد الله:

إن هذه المحنة التي نمر بها قد يقلبها بعض الموفقين إلى منحة و فرصة للسير نحو السمو والكمال والتخلص من سيئ عادات الرفاهية والبذخ

وكما قال الشاعر:

لعل عتبك محمود عواقبه ** وربما صحت الأجسام بالعلل

 

الخطبة الثانية

- الحمد و الثناء و الوصية.

- عباد الله:

ذكرنا آنفاً بعض الحقوق التي تجب للزوج على زوجته، وبقي أمر مهم جداً وهو ما أمر الله سبحانه وتعالى به في كتابه حيث قال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] إن هذا النداء يا عباد الله عام لكل أب و كل زوج و كل رب أسرة لا يخرج منه أحد، كما إنه شامل لسائر الأهل والعشيرة، فيدخل الزوجة و الأولاد و الوالدين و الأخوان، الكل يدخلون في (أهليكم) الذين أمرتم بأن تقوهم من النار أي تبعدوهم عن أسباب دخولها.

وفي مقدمة الأهل " الزوجة " فعلى الزوج أن يقيها من النار: وذلك بتعليمها أمر دينها، ومتابعة القيام بفروضها وواجباتها الشرعية، وبتربيتها على الأخلاق الفاضلة و الآداب الحسنة و الخصال الجميلة، ويصرفها عن أضداد ذلك من الأخلاق و الخصال.

 

 

عباد الله:

وإن من أهم حقوق الزوجة على زوجها أن يغار عليها، وأن يحميها من كل ما يعرِّض عرضها وشرفها وأخلاقها للانحلال والانحراف و الإمهتان، وأن يصونها أشد مما يصون كنوزه و خزائنه، فهي أغلى الكنوز وأثمن الجواهر، فلا يجوز أن يدعها تتعرض للنظرات الظامئة، ولا للكلمات الساقطة، ولا للغمزات الفاجرة ولا للاختلاط المشين، فلا تكن الزوجة مضغة تلوكها الألسن وتقذفها الأفواه و تتندر بحديثها المجالس.

أو طُعم تتهارش عليه الكلاب المسعورة والذئاب الفتاكة، وتقتحمها الشهوات والخواطر وأمنيات الشباب، حتى تجعل لهم إلى نفسها سبيلاً أو يجعل لها زوجها أو وليها إلى تلك المطامع باب أو وسيلة عندما يتركان لها الحبل على الغارب. تلبس الملابس المهيجة للشهوات و اللافتة للنظر، تتعطر بما يثير النزوات نحوها وتمر بذلك بين الشباب وتحضر معهم أماكن اللهو والمجون، حيث يؤذن مؤذن الشيطان فيستفز الجميع بصوته ويجلب عليهم بخيله ورجله.

يا عباد الله:

إن قوماً يرضون لزوجاتهم أو قريباتهم بذلك ما هم والله برجال، ولا عرفوا للرجولة معنى، وما هم والله بالمؤمنين الصادقين ولا ذاقوا للإيمان طعماً، إنهم إلى الخنازير أقرب طبعاً وباليهود أشبه وضعاً.

وإن من مظاهر عدم الغَيرة أن تجلب القنوات الفاضحة والداعية إلى الإباحية والفاحشة إلى البيوت، ثم تُترك بين يدي الزوجات و الأولاد يتعلمون منها الفحش و الفجور وقلة الأدب، ومثلها بعض المواقع الإلكترونية على الإنترنت. وأشد انتشاراً الجوالات ذات الخدمات المتطورة التي تمكن من تبادل الصور والرسائل الغرامية، كل ذلك إذا غفل عنه أولياء الأمور جر الكوارث و هدم الأسر وخرب البيوت وقضى على العفة والطهارة.

ومن مظاهر قلة الغيرة أو عدمها اصطحاب الأسر و الزوجات إلى الأماكن المشبوهة والأماكن التي يوجد بها شباب طائشون، لا عمل لهم إلا النظر والمغازلات مع النساء، أو ترك النساء يذهبن هناك بمفردهن أو يخرجن في أوقات غير مناسبة دون العلم بهدف الخروج، كل ذلك من مظاهر فقدان الغيرة و الرضا بالخبث والرسول صلى الله عليه وسلم وصف الديوث بأنه الذي يقر الخبث في أهله، وأنه لا يدخل الجنة.

 

 


 

[1] رواه النسائي 5 / 375 برقم 9179 وأصل الحديث في صحيح مسلم.

[2] رواه مسلم 4/ 2052 رقم 2664.

[3] رواه النسائي 5 / 374 برقم 9176

[4] رواه ابن حيان 10 / 345 برقم 4493 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 1636.

[5] رواه مسلم 4/2275 رقم 2963.

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم