الخطب والمحاضرات

الوسطية بين الحقيقة والادعاء

2010-03-04



الوسطية بين الحقيقة والادعاء

17/1/1432هـ أحمد بن حسن المعلم

المقدمة.

الوصية بالتقوى.

عباد الله:

إننا نعيش في زمن تعمل فيه الدعايات والشعارات عملها الكبير، بل الخطير في صياغة وعي الأمم، وتشكيل عقولها، وصياغتها حسب القوالب التي يريدها من يقف خلف تلك الدعايات والشعارات.

ولذلك استغلت المصطلحات الصحيحة المحببة إلى النفوس، فوضعت في غير مواضعها ونسب إليها ما ليس منها، أو أخرج عنها بعض أسسها وأركانها، ثم سُوقت تلك المصطلحات مشوهة غير صادقة على ما وضعت له؛ ليخدع بها الناس، ويعتقدون فيها ما هي بريئة منه، ومن أشهر تلك المصطلحات التي تسوق اليوم، ويدعيها من ليس من أهلها مصطلح "الوسطية"، فالعلماني الملحد يتشدق بالوسطية ويزعم أنه من أهلها، وعميل المخابرات الأجنبية من شرقية وغربية ويهودية يصرخ بأعلى صوته لا حل لنزاعات العالم، وإزالة الكراهية من أوساط الناس، والقضاء على الحروب الطاحنة في كل مكان إلا بانتهاج الوسطية، ويزعم أنه ومن على شاكلته هم الأمة الوسط، والعقلاني المبهور بالحضارة الغربية وقيمها الزائغة، الساعي لتطويع الأمة لمفاهيمها، يعقد المؤتمرات ويقيم الندوات باسم الوسطية؛ لتمرير مبادئه ومبادئ أسياده باسمها.

والساعي وراء السراب الذي يهوِّن من شأن الباطل، ويقلل من شأن البدع وأهلها، ويعلي من شأن التشيع والرفض ينادي باسم الوسطية، وبأنه لا بد من تنازلات وحلول وسطية لنجمع الأمة عليها، والرافضي الغالي الذي يعتقد تحريف القرآن وكفر الصحابة، ويلعنهم صباح مساء يزعم ألا وسطية إلا ما هو عليه، والصوفي المبتدع الغالي في الشطح والشعوذة يحتكر الوسطية له ولإخوانه، ويصر أن من أنكر شطحه، وكذّب دجله وضلل عقائده المنحرفة أنه قد جانب الوسطية، وامتطى صهوة الوهابية الخارجية، وأنه مكفر مستبيح لأنفس مخالفيه المعصومة، ويأتي وراء ذلك من يعد الوسطية الغلو في التكفير واستباحة الأنفس والدماء المعصومة، وتبني العنف والإفساد طريقاً للتغيير وإقامة للجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام.

كل هذه الفرق وغيرها تمجد الوسطية، وتزعم أنها خير من يمثلها، وأن من يتمسك بالإسلام الحق الذي قرره الكتاب والسنة وسار عليه الصحابة والقرون المفضلة والأئمة المتبوعون، أن ذلك غالٍ خارجٌ عن الوسطية.

عباد الله:

إن المسلم البسيط الباحث عن الحق، المحب لما يحبه الله ورسوله، الساعي لما فيه نجاته في الدنيا من الضلال وفي الآخرة من النكال، يقف حائراً مبهوتاً لا يدري أين الحقيقة، وقد أرشدنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأحوال إلى الحل الصحيح، وإلى الميزان الذي نزن به تلك الدعاوى، والحكم الفصل بين أصحابها.

قال الله تعالى: ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعــش منكم فسيرى اخـتـلافـا كثيراً، فعـليكم بسنتي وسنة الخفاء الراشدين المهديين عـضو عـليها بالـنـواجـذ، واياكم ومـحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلاله) [رواه أبو داود:4607، والترمذي:2676، وقال: حديث حسن صحيح]..

وعندما نستجيب لأمر ربنا وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجد أن الوسطية التي امتدحها الله تعالى في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) قد فسرت في القرآن والسنة وفسرها السلف الصالح وقد تواطأت عبارات المفسرين بأن المقصود بالوسط هنا هم " الخيار العدول الثابتون على الحق بين باطلي الغلو والجفاء"،وهم الصحابة الكرام قطعاً والتابعون لهم بإحسان، ومن تبعهم من أئمة المسلمين وعلمائهم وسائر من سار على منهجهم من المؤمنين.

وقد فسر القرآن هذه الوسطية في آيات أخرى: فكون هذه الأمة خياراً يدل عليه قوله تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وكونها عدول فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بعد أن ذكر حديث الشهادة على الأمم قرأ قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) قال عدولاً، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )رواه البخاري، وأما تفسيرها بالثبات على الحق بين باطلي الغلو والجفاء، ففي قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) قال الإمام الطبري إمام مفسري أهل السنة: ( . وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها ) ([1]).

والصحابة الذين هم الأمة الوسط بدون نزاع من أحد ممن ينتسب إلى العلم، لهم منهجٌ واضح، وعقائد ثابتة معروفة، وعبادات تعلموها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلوك وأخلاق، فمن نهج منهجهم واعتقد عقائدهم كما ثبت عنهم، لم يزد عليها ولم ينقص منها ولم ينحرف عنها، ولم يستحسن خلافها أو يتأولها بالتأويلات التي لا دليل عليها.وتعبد الله بعباداتهم، ولم يخترع لنفسه عبادات وشعائر لم يتعبدوا بها، ولم يتخذوها قربة، وتخلق بأخلاقهم وسلك سلوكهم، وفهم مراد الله ومراد رسوله كما فهموا فهو من أهل الوسطية ومن أهل الاعتدال، ومن انحرف عن شيء من ذلك في منهج أو عقيدة أو عبادة أو سلوك، فقد خرج عن الوسطية بمقدار انحرافه، وصار إما إلى طائفة أهل الغلو أو طائفة أهل الجفاء:

وخير الأمور السالفات على الهدى

وشر الأمور المحدثات البدائع

قال الحسن البصري – رحمه الله -: ( السنة، والذي لا إله إلا هو، بين الغالي والجافي،فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا ) ([2]).

وقال الإمام البخاري رحمه الله في تفسير الأمة الوسط: (هم الطائفة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم) ([3]).

والطائفة المنصورة فسرها الإمام أحمد وغيره: بأنها أهل الحديث، فثبت بذلك كله أن الأمة الوسط في هذه الأيام من سلك مسلك الصحابة والسلف الصالح من جميع الوجوه، والوسطية هي الحق الذين باطلي الإفراط والتفريط، وليست الوسطية الوسط بين الحق والباطل، فقد قال تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ).

عباد الله:

ليست الوسطية التوسط بين السنة والبدعة ( فكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وليست الوسطية التوسط بين السنة والشيعة فكل من خرج عن طريق أهل السنة خرج عن الصراط المستقيم، وضل الضلال المبين، وليست الوسطية التوسط بين الإسلام وبقية الأديان، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وليست الوسطية هي الحداثة والتنوير الذي مرتكزه تطويع الإسلام وأصوله ومفاهيمه لمفاهيم الأعداء، الذين يقول الله فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ).

أيها الإخوة المؤمنون:

إن الوسطية الحق يجمع أصولها وفروعها ويضبط مفاهيمها ومصطلحاتها ما تضمنته النصوص التالية:

قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ).

وقوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ).

وقوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ).

وحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ e خَطًّا فَقَالَ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ تَلا وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا إِلَى آخِرِ الآيَة ) ([4]).

 

فالوسطية ما تضمنته هذه النصوص من أصول ومعاني ومفاهيم، والوسطي من فهم تلك النصوص حق فهمها، وعمل بمقتضاها.

أسأل الله أن يهدينا وجميع أمة محمد إلى ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد والثناء

الوصية بالتقوى

عباد الله

لقد ساغ لجميع المذاهب والمشارب والتوجهات الإسلامية وغير الإسلامية ممن يهمهم أمر الإسلام ويخيفهم مظاهر التجديد والنهوض والصحوة التي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها وبشرت بقرب تحقيق قول الله تعالى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أقول لقد ساغ لأولئك جميعاً مصطلح الوسطية وطمع كل طرف أن يُسوقه وفق توجهه ومراده أو قل في بعض الأحيان وفق هواه وغاياته.

لذلك عقدت الندوات وأقيمت المؤتمرات وكتبت الأبحاث وتنوعت الخطب والمحاضرات والبرامج الإعلامية حول هذا المصطلح وخرجت النتائج وصدرت البيانات وأعدت القرارات والتوصيات المتضاربة المتناقضة لأن كل فريق يريد أن يحمل الناس على مفهومه الخاص للوسطية وظن كثير منهم أن ذلك سيكون مقبولاً عند الله وحائزاً على رضا الجماهير ومسخراً العقول لتحقيق ما يريد ويأبى الله ذلك فلن يحق إلا الحق ولن يقبل القبول العام لدى الأمة إلا ما كان موافقاً لفطرتها منبثقاً من مصدر هدايتها ومشكاة نورها من كتاب ربها وسنة نبيها وهدي سلفها الصالح.

لن يصدق الناس من يدعي الوسطية منتهجاً نهج الخوارج في التكفير ولا نهج المعتزلة في سلب اسم الإيمان عن عصاة الأمة وحمل سيوف البغي بدل النصيحة لإصلاح الأوضاع.

ولا نهج المنافقين الذين (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ) والذين وصفهم الله بقوله {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .

ولا نهج المتاجرين بالولاية كما يصفهم ابن عبيد الله رحمه الله الذين يتربعون على قمة الغلو حيناً في أنفسهم حيث يقول قائلهم حين سئل عما ظهر له من الكرامات قال ( ظهر لي ثلاث خصال أحيي وأميت بإذن الله تعالى ،وأقول للشيء كن فيكون بإذن الله، وأعرف الشقي من السعيد بإذن الله فقال الشيخ عبد الله وعاد نحن نرجو فيك أكثر من هذا!!!) ( [5] ).

ويقول الآخر عن نفسه

صفت لي حميـا خلي ................ وأسقيت من صافيهـا

ومن ذا شربها مثلـي ................أنـا قبـل لا يصفيهـا

أنا قبـل قبـل القبـل ................ وبديـت على هاليهـا

أنا حتف لأهل العـذل ............... ونار الجحيـم أطفيهــا

أنا أعزل أنـا للي ولي ................ وأنا شيخها قاضيهـا

وعين الحقيـقـة عيني................ وأشرب من ساقيـهـا

أنـا عرشها والكرسي................ أنا للسـما بانـيـهـا ( [6] )

ويقول لمريده ( يا يوسف أنا أبو الأرواح وأما والدك فهو أبو الأشباح والله إني نظرتك في صلب والدك عابد وحضرت على ولادتك) ( [7] ).

ويقول أحدهم عن أحد مقدسيهم (وكان علوي بن محمد بن علي في صغره معروفاً بكرامات كثيرة وفراسات خارقة منها :

أنه يعرف الشقي من السعيد ، وشهد له أهل الكشف والفراسة والنور والفتح المشكور أنه ممن يحيي الموتى بإذن الله ، ويبريء الأكمة والأبرص بإذن الله ، وأنه ممن أذن له في كمال التصريف المطلق بإذن الله .وكان من الأقطاب المتمكنين في الكشف والفراسة والمشاهدة) ( [8] ).

ويقول غيره عن ولده حينما تعسرت ولادة أمه ( هذا ولدي ما بيخرج حتى يقرأ اللوح المحفوظ باقي معه أسطر بايتمها وبايخرج) ( [9] ).

بل بلغ بهم الغلو حتى في الحيوانات المنسوبة إلى مقدسيهم فهذا يقول ( دابة الفقيه المقدم تعرف طرق السماء كما تعرف طرق الأرض) ( [10] ).

وأرض تريم يغلون فيها قريباً من غلو الرافضة في كربلاء كما ورد في تحفة الأحباب قوله (بأنها تريد أدب جم ، وهي مثل مكة والمدينة واستدل بقوله تعالى ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال ولا تقيسون تريم بغيرها من البلدان ، وزاد في موضع بأن فيها أشياء ما هي في مكة ولا في المدينة ! وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم له نظر إلى هذه البلاد بنظر خاص ، وفيه أيضا أن تريم مثل مكة والمدينة من ابتدع فيها شيء مخالف لما عليه السلف لازم ما تنفيه إن طال الزمن أو قصر ) ( [11] ).

وينادي أحد مشاهير علمائهم وأدبائهم الميت عمر المحضار بقوله

أدرك حماك مديــــنة الأجداد من ... مرض سرى في الـــدار والديار
قم يا شجاع الــدين واجبر صدعها ... عار عليـك وقوعـــها في العار
حرمتها وضمــــنت أمن ربوعها ... يا كعبة الحجـــــاج والزوار
فرض حمايتها علــــيك كما وعدت وأنت سلطـــان الحماة الجار

والعجيب أنه مع هذا الغلو وهذه النصوص التي لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من أقوالهم الغالية في أنفسهم ومقدسيهم وما ينسب إليهم من أرض وحيوان وهي محفوظة موثقة في كتب هي عندهم من المراجع التي لا يخالجهم شك في صحتها واعتمادها وولاية مؤلفيها وكمال علمهم أقول مع كل هذا الغلو يريدون أن يقنعوا الناس بأنهم هم الأمة الوسط هم أهل الوسطية والاعتدال الواعي يدّعون هذه الدعاوى وهم يستميتون في الدفاع عن دعاء الأموات من دون الله والاستغاثة بهم ويجمعون الشبهات على ذلك واصفين من أنكر ذلك وعده شركاً أنه خارجي مكفر للمسلمين رغم أن إمامين من أئمتهم المعتمدين لديهم قد نقلا الإجماع على أن ذلك شرك وهما ابن حجر الهيتمي ومحمد بن سليمان الكردي.

ومن كان هذا منهجه وهذا تعامله مع مخالفيه كيف بالله عليكم يصدق الناس أنه هو وأهل مدرسته أهل وسطية واعتدال قال تعالى {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال سبحانه {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال الشاعر

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ..وان خالها تخفي علي الناس تعلم

 

 

 

[1] تفسير الطبري ( 3/ 626-627).

[2] رواه الدارمي ( 1/63) رقم ( 222) المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي بإسناد صحيح.

[3] خلق أفعال العباد (60).

[4] رواه أحمد والنسائي والدارمي وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح رقم 166.

[5] الجوهر الشفاف الحكاية الثانية والستون

[6] ديوان أبي بكر بن سالم (مخطوط)

[7] النهر المورود

[8] البراقة المشيقة ص 141

[9] فيض الأسرار 2/190 كنوز السعادة ص 170

[10] الجوهر الشفاف الحكاية الثامنة والثلاثون – شرح العينية 138

[11] تحفة الأحباب ص 165. 257. 372.

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع الشيخ أحمد المعلم